فصل: باب قَوْلِ اللَّهِ تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} (المعارج: 4) وَقَوْلِهِ: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} (فاطر: 10)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***


باب قَوْلِ اللَّهِ تعالى‏:‏ ‏{‏تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 4‏]‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 10‏]‏

وَقَالَ ابْن عَبَّاس‏:‏ بَلَغَ أَبَا ذَرٍّ مَبْعَثُ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لأخِيهِ‏:‏ اعْلَمْ لِى عِلْمَ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِى يَزْعُمُ أَنَّهُ يَأْتِيهِ الْخَبَرُ مِنَ السَّمَاءِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ‏:‏ ‏(‏الْعَمَلُ الصَّالِحُ ‏(‏يَرْفَعُ الْكَلِمَ الطَّيِّبَ، يُقَالُ‏:‏ ‏(‏ذِى الْمَعَارِجِ ‏(‏‏:‏ الْمَلائِكَةُ تَعْرُجُ إِلَى اللَّهِ‏.‏

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلائِكَةٌ بِالنَّهَارِ وَيَجْتَمِعُونَ فِى صَلاةِ الْعَصْرِ، وَصَلاةِ الْفَجْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ، فَيَسْأَلُهُمْ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ، كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِى‏؟‏ فَيَقُولُونَ‏:‏ تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، وَلا يَصْعَدُ إِلَى اللَّهِ إِلا الطَّيِّبُ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، أَنَّ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْعُو بِهِنَّ عِنْدَ الْكَرْبِ‏:‏ ‏(‏لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ، لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو سَعِيد، بَعَثَ عَلِىٌّ إِلَى النَّبِيِّ عليه السلام من الْيَمَن بِذُهَيْبَةٍ فِى تُرْبَتِهَا، فَقَسَمَهَا بَيْنَ أربعة، فَتَغَيَّظَتْ قُرَيْشٌ وَالأنْصَارُ، وَقَالُوا‏:‏ يُعْطِيهِ صَنَادِيدَ أَهْلِ نَجْدٍ، وَيَدَعُنَا، قَالَ‏:‏ إِنَّمَا أَتَأَلَّفُهُمْ، فَأَقْبَلَ رَجُلٌ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ، نَاتِئُ الْجَبِينِ، كَثُّ اللِّحْيَةِ، مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ، مَحْلُوقُ الرَّأْسِ، فَقَالَ‏:‏ يَا مُحَمَّدُ، اتَّقِ اللَّهَ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏فَمَنْ يُطِيعُ اللَّهَ إِذَا عَصَيْتُهُ، فَيَأْمَنُنِى عَلَى أَهْلِ الأرْضِ، وَلا تَأْمَنُونِي‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو ذَرّ، سَأَلْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَوْلِهِ تعالى‏:‏ ‏{‏وَالشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 38‏]‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏مُسْتَقَرُّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ‏)‏‏.‏

غرضه فى هذا الباب رد شبهة الجهمية المجسمة فى تعلقها بظاهر قوله‏:‏ ‏(‏ذِى الْمَعَارِجِ تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 3، 4‏]‏، وقوله‏:‏ ‏(‏إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 10‏]‏، وما تضمنته أحاديث الباب من هذا المعنى، وقد تقدم الكلام فى الرد عليهم وهو أن الدلائل الواضحة قد قامت على أن البارى تعالى ليس بجسم ولا محتاجًا إلى مكان يحله ويستقر فيه؛ لأنه تعالى قد كان ولا مكان وهو على ما كان، ثم خلق المكان فمحال كونه غنيا عن المكان قبل خلقه إياه، ثم يحتاج إليه بعد خلقه له هذا مستحيل، فلا حجة لهم فى قوله‏:‏ ‏(‏ذِى الْمَعَارِجِ ‏(‏لأنه إنما أضاف المعارج إليه إضافة فعل، وقد كان لا فعل له موجود، وقد قال ابن عباس فى قوله‏:‏ ‏(‏ذِى الْمَعَارِجِ ‏(‏هو بمعنى‏:‏ العلو والرفعة، وكذلك لا شبهة لهم فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 10‏]‏، لأن صعود الكلم إلى الله تعالى لا يقتضى كونه فى جهة العلو لأن البارى تعالى لا تحويه جهة؛ إذ كان موجودًا ولا جهة، وإذا صح ذلك وجب صرف هذا عن ظاهره وإجراؤه على المجاز؛ لبطلان إجرائه على الحقيقة، فوجب أن يكون تأويل قوله‏:‏ ‏(‏ذِى الْمَعَارِجِ ‏(‏رفعته واعتلاؤه على خليقته وتنزيهه عن الكون فى جهة؛ لأن فى ذلك ما يوجب كونه جسمًا تعالى الله عن ذلك، وأما وصف الكلام بالصعود إليه فمجاز أيضًا واتساع؛ لأن الكلم عرض والعرض لا يصح أن يفعل؛ لأن من شرط الفاعل كونه حيًا قادرًا عالمًا مريدًا، فوجب صرف الصعود المضاف إلى الكلم إلى الملائكة الصاعدين به‏.‏

باب قَول تعالى‏:‏ ‏{‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 22، 23‏]‏

- فيه‏:‏ جَرِير، كُنَّا عِنْدَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ نَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ، لا تُضَامُونَ فِى رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لا تُغْلَبُوا عَلَى صَلاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَصَلاةٍ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَافْعَلُوا‏)‏‏.‏

وقال جَرِير مرة‏:‏ قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ عِيَانًا‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّاسَ قَالُوا‏:‏ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏؟‏ فَقَالَ النَّبِىّ عليه السلام‏:‏ ‏(‏هَلْ تُضَارُّونَ فِى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ‏)‏‏.‏

قَالُوا‏:‏ لا يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ قَالَ‏:‏ ‏(‏فَهَلْ تُضَارُّونَ فِى الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ‏)‏‏؟‏ قَالُوا‏:‏ لا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ‏:‏ ‏(‏فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ، يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُ‏:‏ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتْبَعْهُ، فَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الشَّمْسَ الشَّمْسَ، وَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الْقَمَرَ الْقَمَرَ، وَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الطَّوَاغِيتَ، الطَّوَاغِيتَ، وَتَبْقَى هَذِهِ الأمَّةُ فِيهَا شَافِعُوهَا، أَوْ مُنَافِقُوهَا، شَكَّ إِبْرَاهِيمُ، فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ، فَيَقُولُ‏:‏ أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ‏:‏ هَذَا مَكَانُنَا، حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا، فَإِذَا جَاءَنَا رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ، فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ فِى صُورَتِهِ الَّتِى يَعْرِفُونَ، فَيَقُولُ‏:‏ أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ‏:‏ أَنْتَ رَبُّنَا، فَيَتْبَعُونَهُ وَيُضْرَبُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهْرَىْ جَهَنَّمَ، فَأَكُونُ أَنَا وَأُمَّتِى أَوَّلَ مَنْ يُجِيزُهَا، وَلا يَتَكَلَّمُ يَوْمَئِذٍ إِلا الرُّسُلُ، وَدَعْوَى الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ‏:‏ اللَّهُمَّ سَلِّمْ، سَلِّمْ، وَفِى جَهَنَّمَ كَلالِيبُ مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ، هَلْ رَأَيْتُمُ السَّعْدَانَ‏؟‏ قَالُوا‏:‏ نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ‏:‏ فَإِنَّهَا مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ، غَيْرَ أَنَّهُ لا يَعْلَمُ مَا قَدْرُ عِظَمِهَا إِلا اللَّهُ، تَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ، فَمِنْهُمُ الْمُوبَقُ بَقِىَ بِعَمَلِهِ، أَوِ الْمُوثَقُ بِعَمَلِهِ، وَمِنْهُمُ الْمُخَرْدَلُ، أَوِ الْمُجَازَى، أَوْ نَحْوُهُ، ثُمَّ يَتَجَلَّى حَتَّى إِذَا فَرَغَ اللَّهُ مِنَ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْعِبَادِ، وَأَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ بِرَحْمَتِهِ مَنْ أَرَادَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، أَمَرَ الْمَلائِكَةَ أَنْ يُخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ لا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا مِمَّنْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَرْحَمَهُ مِمَّنْ يَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، فَيَعْرِفُونَهُمْ فِى النَّارِ بِأَثَرِ السُّجُودِ، تَأْكُلُ النَّارُ ابْنَ آدَمَ إِلا أَثَرَ السُّجُودِ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى النَّارِ، أَنْ تَأْكُلَ أَثَرَ السُّجُودِ، فَيَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ قَدِ امْتُحِشُوا، فَيُصَبُّ عَلَيْهِمْ مَاءُ الْحَيَاةِ، فَيَنْبُتُونَ تَحْتَهُ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِى حَمِيلِ السَّيْلِ، ثُمَّ يَفْرُغُ اللَّهُ مِنَ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْعِبَادِ، وَيَبْقَى رَجُلٌ مِنْهُمْ مُقْبِلٌ بِوَجْهِهِ عَلَى النَّارِ هُوَ آخِرُ أَهْلِ النَّارِ دُخُولا الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ‏:‏ أَىْ رَبِّ، اصْرِفْ وَجْهِى عَنِ النَّارِ، فَإِنَّهُ قَدْ قَشَبَنِى رِيحُهَا، وَأَحْرَقَنِى ذَكَاؤُهَا، فَيَدْعُو اللَّهَ بِمَا شَاءَ أَنْ يَدْعُوَهُ، ثُمَّ يَقُولُ‏:‏ اللَّهُ هَلْ عَسَيْتَ إِنْ أَعْطَيْتُكَ‏:‏ ذَلِكَ أَنْ تَسْأَلَنِى غَيْرَهُ، فَيَقُولُ‏:‏ لا وَعِزَّتِكَ، لا أَسْأَلُكَ غَيْرَهُ، وَيُعْطِى رَبَّهُ مِنْ عُهُودٍ وَمَوَاثِيقَ مَا شَاءَ، فَيَصْرِفُ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ، فَإِذَا أَقْبَلَ عَلَى الْجَنَّةِ، وَرَآهَا سَكَتَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ، ثُمَّ يَقُولُ‏:‏ أَىْ رَبِّ، قَدِّمْنِى إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ اللَّهُ، لَهُ‏:‏ أَلَسْتَ قَدْ أَعْطَيْتَ عُهُودَكَ وَمَوَاثِيقَكَ أَنْ لا تَسْأَلَنِى غَيْرَ الَّذِى أُعْطِيتَ أَبَدًا، وَيْلَكَ يَا ابْنَ آدَمَ، مَا أَغْدَرَكَ، فَيَقُولُ‏:‏ أَىْ رَبِّ، وَيَدْعُو اللَّهَ حَتَّى يَقُولَ‏:‏ هَلْ عَسَيْتَ إِنْ أُعْطِيتَ ذَلِكَ أَنْ تَسْأَلَ غَيْرَهُ‏؟‏ فَيَقُولُ‏:‏ لا وَعِزَّتِكَ، لا أَسْأَلُكَ غَيْرَهُ، وَيُعْطِى مَا شَاءَ مِنْ عُهُودٍ وَمَوَاثِيقَ، فَيُقَدِّمُهُ إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ، فَإِذَا قَامَ إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ، انْفَهَقَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، فَرَأَى مَا فِيهَا مِنَ الْحَبْرَةِ وَالسُّرُورِ، فَيَسْكُتُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ، ثُمَّ يَقُولُ‏:‏ أَىْ رَبِّ، أَدْخِلْنِى الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ اللَّهُ‏:‏ أَلَسْتَ قَدْ أَعْطَيْتَ عُهُودَكَ وَمَوَاثِيقَكَ‏:‏ أَنْ لا تَسْأَلَ غَيْرَ مَا أُعْطِيتَ‏؟‏ فَيَقُولُ‏:‏ وَيْلَكَ يَا ابْنَ آدَمَ، مَا أَغْدَرَكَ، فَيَقُولُ‏:‏ أَىْ رَبِّ، لا أَكُونَنَّ أَشْقَى خَلْقِكَ، فَلا يَزَالُ يَدْعُو حَتَّى يَضْحَكَ اللَّهُ مِنْهُ، فَإِذَا ضَحِكَ مِنْهُ، قَالَ لَهُ‏:‏ ادْخُلِ الْجَنَّةَ، فَإِذَا دَخَلَهَا، قَالَ اللَّهُ لَهُ‏:‏ تَمَنَّهْ، فَسَأَلَ رَبَّهُ وَتَمَنَّى حَتَّى إِنَّ اللَّهَ لَيُذَكِّرُهُ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا حَتَّى انْقَطَعَتْ بِهِ الأمَانِىُّ، قَالَ اللَّهُ‏:‏ ذَلِكَ لَكَ وَمِثْلُهُ‏)‏‏.‏

مَعَهُ قَالَ عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِىُّ، مَعَ أَبِى هُرَيْرَةَ لا يَرُدُّ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِهِ شَيْئًا حَتَّى إِذَا حَدَّثَ أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ‏:‏ ذَلِكَ لَكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ‏:‏ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ مَعَهُ، يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ‏:‏ مَا حَفِظْتُ إِلا قَوْلَهُ ذَلِكَ‏:‏ لَكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِىُّ، أَشْهَدُ أَنِّى حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَوْلَهُ‏:‏ ذَلِكَ، لَكَ وَعَشَرَةُ، أَمْثَالِهِ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، فَذَلِكَ الرَّجُلُ آخِرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولا الْجَنَّةَ‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، كَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا تَهَجَّدَ مِنَ اللَّيْلِ، قَالَ‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ‏)‏، إلى قوله‏:‏ ‏(‏أَنْتَ الْحَقُّ، وَوَعْدُكَ الْحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقُّ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

- وفيه‏:‏ عَدِىِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ، وَلا حِجَابٌ يَحْجُبُهُ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو سَعِيد، مثل حديث أبى هريرة الطويل، إلى قوله‏:‏ فِيَذْهَبْ أَصْحَابُ كُلِّ آلِهَةٍ مَعَ آلِهَتِهِمْ، حَتَّى يَبْقَى مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ مِنْ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ، وَغُبَّرَاتٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، ثُمَّ يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ تُعْرَضُ كَأَنَّهَا سَرَابٌ، فَيُقَالُ لِلْيَهُودِ‏:‏ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ‏؟‏ قَالُوا‏:‏ كُنَّا نَعْبُدُ عُزَيْرَ ابْنَ اللَّهِ‏:‏ فَيُقَالُ‏:‏ كَذَبْتُمْ، لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ صَاحِبَةٌ وَلا وَلَدٌ، فَمَا تُرِيدُونَ‏؟‏ قَالُوا‏:‏ نُرِيدُ أَنْ تَسْقِيَنَا، فَيُقَالُ‏:‏ اشْرَبُوا، فَيَتَسَاقَطُونَ فِى جَهَنَّمَ، ثُمَّ يُقَالُ لِلنَّصَارَى‏:‏ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ‏؟‏ فَيَقُولُونَ‏:‏ كُنَّا نَعْبُدُ الْمَسِيحَ ابْنَ اللَّهِ، فَيُقَالُ‏:‏ كَذَبْتُمْ، لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ صَاحِبَةٌ وَلا وَلَدٌ، فَمَا تُرِيدُونَ‏؟‏ فَيَقُولُونَ‏:‏ نُرِيدُ أَنْ تَسْقِيَنَا، فَيُقَالُ‏:‏ اشْرَبُوا، فَيَتَسَاقَطُونَ فِى جَهَنَّمَ، حَتَّى يَبْقَى مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ مِنْ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ فَيُقَالُ لَهُمْ‏:‏ مَا يَحْبِسُكُمْ‏:‏ وَقَدْ ذَهَبَ النَّاسُ، فَيَقُولُونَ‏:‏ فَارَقْنَاهُمْ، وَنَحْنُ أَحْوَجُ مِنَّا إِلَيْهِ الْيَوْمَ، وَإِنَّا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِى‏:‏ لِيَلْحَقْ كُلُّ قَوْمٍ بِمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ، وَإِنَّمَا نَنْتَظِرُ رَبَّنَا، قَالَ‏:‏ فَيَأْتِيهِمُ الْجَبَّارُ فِى صُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ الَّتِى رَأَوْهُ فِيهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَيَقُولُ‏:‏ أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ‏:‏ أَنْتَ رَبُّنَا، فَلا يُكَلِّمُهُ إِلا الأنْبِيَاءُ، فَيَقُولُ‏:‏ هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ آيَةٌ تَعْرِفُونَهُ‏؟‏ فَيَقُولُونَ‏:‏ السَّاقُ، فَيَكْشِفُ عَنْ سَاقِهِ، فَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ، وَيَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ لِلَّهِ رِيَاءً وَسُمْعَةً، فَيَذْهَبُ كَيْمَا يَسْجُدَ، فَيَعُودُ ظَهْرُهُ طَبَقًا وَاحِدًا، ثُمَّ يُؤْتَى بِالْجَسْرِ، فَيُجْعَلُ بَيْنَ ظَهْرَىْ جَهَنَّمَ، قُلْنَا‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْجَسْرُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ مَدْحَضَةٌ مَزِلَّةٌ عَلَيْهِ خَطَاطِيفُ وَكَلالِيبُ، وَحَسَكَةٌ مُفَلْطَحَةٌ لَهَا شَوْكَةٌ عُقَيْفَاءُ تَكُونُ بِنَجْدٍ، يُقَالُ لَهَا‏:‏ السَّعْدَانُ، الْمُؤْمِنُ عَلَيْهَا كَالطَّرْفِ وَكَالْبَرْقِ وَكَالرِّيحِ وَكَأَجَاوِيدِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ، فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ، وَنَاجٍ مَخْدُوشٌ وَمَكْدُوسٌ فِى نَارِ جَهَنَّمَ حَتَّى يَمُرَّ آخِرُهُمْ، يُسْحَبُ سَحْبًا، فَمَا أَنْتُمْ بِأَشَدَّ لِى مُنَاشَدَةً فِى الْحَقِّ قَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِ يَوْمَئِذٍ لِلْجَبَّارِ، وَإِذَا رَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ نَجَوْا فِى إِخْوَانِهِمْ، يَقُولُونَ‏:‏ رَبَّنَا إِخْوَانُنَا كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَنَا، وَيَصُومُونَ مَعَنَا، وَيَعْمَلُونَ مَعَنَا، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِى قَلْبِهِ مِثْقَالَ دِينَارٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ، وَيُحَرِّمُ اللَّهُ صُوَرَهُمْ عَلَى النَّارِ، فَيَأْتُونَهُمْ وَبَعْضُهُمْ قد غَابَ فِي النَّارِ إِلَى قَدَمِهِ وَإِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ، فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا، ثُمَّ يَعُودُونَ، فَيَقُولُ‏:‏ اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِى قَلْبِهِ مِثْقَالَ نِصْفِ دِينَارٍ فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا، ثُمَّ يَعُودُونَ، فَيَقُولُ‏:‏ اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِى قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا‏.‏

قَالَ أَبُو سَعِيدٍ‏:‏ فَإِنْ لَمْ تُصَدِّقُونِى فَاقْرَءُوا‏:‏ ‏(‏إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 40‏]‏ فَيَشْفَعُ النَّبِيُّونَ وَالْمَلائِكَةُ وَالْمُؤْمِنُونَ، فَيَقُولُ الْجَبَّارُ‏:‏ بَقِيَتْ شَفَاعَتِى فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ، فَيُخْرِجُ أَقْوَامًا قَدِ امْتُحِشُوا، فَيُلْقَوْنَ فِى نَهَرٍ، بِأَفْوَاهِ الْجَنَّةِ، يُقَالُ لَهُ‏:‏ مَاءُ الْحَيَاةِ، فَيَنْبُتُونَ فِى حَافَتَيْهِ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِى حَمِيلِ السَّيْلِ قَدْ رَأَيْتُمُوهَا إِلَى جَانِبِ الصَّخْرَةِ وَإِلَى جَانِبِ الشَّجَرَةِ، فَمَا كَانَ إِلَى الشَّمْسِ مِنْهَا كَانَ أَخْضَرَ، وَمَا كَانَ مِنْهَا إِلَى الظِّلِّ كَانَ أَبْيَضَ، فَيَخْرُجُونَ كَأَنَّهُمُ اللُّؤْلُؤُ، فَيُجْعَلُ فِى رِقَابِهِمُ الْخَوَاتِيمُ، فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ أَهْلُ الْجَنَّةِ‏:‏ هَؤُلاءِ عُتَقَاءُ الرَّحْمَنِ، أَدْخَلَهُمُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ عَمِلُوهُ، وَلا خَيْرٍ قَدَّمُوهُ، فَيُقَالُ لَهُمْ‏:‏ لَكُمْ مَا رَأَيْتُمْ وَمِثْلَهُ مَعَهُ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَس، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يُحشر النَّاس يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُهِمُّوا بِذَلِكَ، فَيَقُولُونَ‏:‏ لَوِ اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبِّنَا فَيُرِيحُنَا مِنْ مَكَانِنَا، فَيَأْتُونَ آدَمَ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ فذكر حديث الشفاعة، ‏(‏فَيَأْتُونِى، فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّى فِى دَارِهِ، فَيُؤْذَنُ لِى عَلَيْهِ، فَإِذَا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ سَاجِدًا‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏، الحديث، ‏(‏فأَشْفَعُ، فَيَحُدُّ لِى حَدًّا، فَأُخْرِجُهُمْ، وَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، فلا يَبْقَى فِى النَّارِ إِلا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ، أَىْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ‏)‏، ثُمَّ تَلا‏:‏ ‏)‏ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 79‏]‏، قَالَ‏:‏ وَهَذَا الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ الَّذِي وُعِدَهُ نَبِيُّكُمْ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَس، أَنَّ النَّبِيّ عليه السلام أَرْسَلَ إِلَى الأنْصَارِ فَجَمَعَهُمْ فِى قُبَّةٍ، وَقَالَ لَهُمُ‏:‏ ‏(‏اصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوُا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَإِنِّى عَلَى الْحَوْضِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو مُوسَى قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ كذلك، وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلا رِدَاءُ الْكِبْرِ عَلَى وَجْهِهِ فِى جَنَّةِ عَدْنٍ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَنِ اقْتَطَعَ مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينٍ كَاذِبَةٍ لَقِىَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ، ثُمَّ قَرَأَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم مِصْدَاقَهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ‏:‏ ‏(‏إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ‏}‏ الآية ‏[‏آل عمران‏:‏ 77‏]‏‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِيّ عليه السلام‏:‏ ‏(‏ثَلاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ، وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ‏:‏ رَجُلٌ حَلَفَ عَلَى سِلْعَةٍ، لَقَدْ أَعْطَى بِهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَى، وَهُوَ كَاذِبٌ، وَرَجُلٌ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ؛ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، وَرَجُلٌ مَنَعَ فَضْلَ مَاءٍ، فَيَقُولُ اللَّهُ‏:‏ الْيَوْمَ أَمْنَعُكَ فَضْلِى، كَمَا مَنَعْتَ فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاكَ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو بَكْرَةَ، قَالَ النَّبِيّ عليه السلام‏:‏ ‏(‏إن الزَّمَانُ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ‏)‏، الحديث ‏(‏وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ استدل البخارى بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 22، 23‏]‏، وبأحاديث هذا الباب على أن المؤمنين يرون ربهم فى جنات النعيم وهذا باب اختلف الناس فيه، فذهب أهل السنة وجمهور الأمة إلى جواز رؤية الله تعالى فى الآخرة، ومنعت من ذلك الخوارج والمعتزلة وبعض المرجئة واستدلوا على ذلك بأن الرؤية توجب كون المرئى محدثًا وحالا فى مكان فى شبه أخر نقض بعضها مغن عن نقض سائرها وزعموا أن قوله‏:‏ ‏(‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ‏(‏بمعنى منتظرة‏.‏

فيقال لهم‏:‏ هذا جهل بموضع اللغة؛ لأن النظر فى كلام العرب ينقسم أربعة أقسام‏:‏ يكون بمعنى الانتظار، ويكون بمعنى التفكر والاعتبار، ويكون بمعنى التعطف والرحمة، ويكون بمعنى الرؤية للأبصار؛ فخطأ كونه فى الآية بمعنى الانتظار من وجهين‏:‏ أحدهما أنه قد عدى إلى مفعوله ‏(‏بإلى‏)‏ وهو إذا كان بمعنى الانتظار لا يتعدى بها، وإنما يتعدى بنفسه قال تعالى‏:‏ ‏{‏هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 66‏]‏ فعداه بنفسه لما كان بمعنى ينتظرون‏.‏

قال الشاعر‏:‏

فإنكما إن تنظرانى ساعة *** من الدهر تنفعنى أرى أم جندب

بمعنى‏:‏ تنتظرانى‏.‏

والوجه الثانى‏:‏ أن حمله على معنى الانتظار لا يخلو إما أن يراد به منتظرة ربها أو منتظرة ثوابه، وعلى أى الوجهين حُمل فهو خطأ؛ لأن المنتظر لما ينتظره فى تنغيص وتكدير، والله تعالى قد وصف أهل الجنة بغير ذلك وأن لهم فيها ما يشاءون‏.‏

فبطل كون النظر فى الآية بمعنى الاعتبار والتفكر؛ لأن الآخرة ليست بدار اعتبار وتفكر؛ إذ ليست بدار محنة وعبادة؛ ولأن ذاته تعالى ليست مما يعتبر بها؛ فبطل قولهم‏.‏

ويبطل كون النظر فى الآية بمعنى التعطف والرحمة؛ لأن ذاته تعالى ليست مما يتعطف عليها وترحم‏.‏

فإذا بطلت هذه الأقسام الثلاثة؛ صح القسم الرابع وهو النظر إلى ربها بمعنى الرؤية بالأبصار له تعالى، وهو ما ذهب إليه جمهور المسلمين قبل حدوث القائلين بهذه الضلالة، وشهدت له السنن الثابتة من الطرق المختلفة‏.‏

وما احتج به من نفى الرؤية من أنها توجب كون المرئى محدثًا فهو فاسد؛ لقيام الدلائل على أن الله تعالى موجود وأن الرؤية منزلتها فى تعلقها بالمرئى منزلة العلم فى تعلقه بالمعلوم، فكما أن العلم المتعلق بالموجود لا يختص بموجود دون موجود، ولا توجب تعلقه به حدثه كذلك للرؤية فى تعلقها بالمرئى لا يوجب حدثه‏.‏

واحتج نفاة الرؤية بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 103‏]‏، وبقوله تعالى لموسى‏:‏ ‏(‏لَن تَرَانِى‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 143‏]‏ فى جوابه سؤاله الرؤية، وهذا لا تعلق لهم فيه؛ لأن قوله‏:‏ ‏(‏لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ ‏(‏وقوله‏:‏ ‏(‏لَن تَرَانِى ‏(‏لفظ عام، وقوله‏:‏ ‏(‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 22، 23‏]‏، خاص، والخاص يقضى على العام ويبينه، فمعنى الآية لا تدركه الأبصار فى الدنيا؛ لأنه تعالى قد أشار إلى أن المراد بقوله‏:‏ ‏(‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ‏(‏الآخرة؛ لقوله‏:‏ يومئذ، وكذلك يكون معنى قوله لموسى‏:‏ ‏(‏لَن تَرَانِى ‏(‏فى الدنيا، ولأنه قد ثبت أن نفى الشىء لا يقتضى إحالته؛ بل قد يتناول المستحيل وجوده والجائز وجوده، فلا تعلق لهم بالآيتين مع ما يشهد لصحة الرؤية لله تعالى من الأحاديث الثابتة التى تلقاها المسلمون بالقبول من عصر الصحابة والتابعين، رضى الله عنهم أجمعين إلى حدوث المارقين المنكرين للرؤية‏.‏

وأما وصفه صلى الله عليه وسلم لله تعالى بالإتيان بقوله‏:‏ ‏(‏فيأتيهم الله‏)‏‏.‏

فليس على معنى الإتيان المعهود فيما بيننا الذى هو انتقال وحركة؛ لاستحالة وصفه بما توصف به الأجسام، فوجب حمله على أنه يفعل فعلا يسميه إتيانًا وصف تعالى به نفسه، ويحتمل أن يكون الإتيان المعهود فيما بيننا خلقه تعالى لغيره من ملائكة فأضافه إلى نفسه كما يقول القائل‏:‏ قطع الأمير اللص، وهو لم يل ذلك بنفسه إنما أمر به‏.‏

وأما وصفه تعالى بالصورة فى قوله‏:‏ فيأتيهم الله فى صورته‏.‏

ففيه إيهام للمجسمة أنه تعالى ذو صورة، ولا حجة لهم فيه؛ لأن الصورة هاهنا يحتمل أن تكون بمعنى العلامة وضعها الله تعالى دليلا لهم على معرفته والتفرقة بينه وبين مخلوقاته، فسمى الدليل والعلامة صورة مجازًا كما تقول العرب‏:‏ صورة حديثك كيت وكيت، وصورة أمرك كذا وكذا، والحديث والأمر لا صورة لهما، وإنما يريدون حقيقة حديثك وأمرك كذا وكذا‏.‏

قال المهلب‏:‏ وأما قوله‏:‏ ‏(‏فإذا رأينا ربنا عرفناه‏)‏ فإنما ذلك أن الله تعالى يبعث إليهم ملكًا ليفتنهم ويختبرهم فى اعتقاد صفات ربهم الذى ليس كمثله شىء فإذا قال لهم الملك‏:‏ أنا ربكم، رأوا عليه دليل الخلقة التى تشبه المخلوقات فيقولون‏:‏ هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاءنا عرفناه‏.‏

أى أنك لست ربنا، فيأتيهم الله فى صورته التى يعرفون أى يظهر إليهم فى ملك لا ينبغى لغيره وعظمة لا تشبه شيئًا من مخلوقاته، فيعرفون أن ذلك الجلال والعظمة لا تكون لغيره، فيقولون‏:‏ أنت ربنا لا يشبهك شىء‏.‏

فالصورة يعبر بها عن حقيقة الشئ‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏(‏فيقال‏:‏ هل بينكم وبينه آية تعرفونها‏؟‏ فيقولون‏:‏ الساق‏)‏ فهذا يدل والله أعلم أن الله عرف المؤمنين على ألسنة الرسل يوم القيامة أو على ألسنة الملائكة المتلقين لهم بالبشرى أن الله قد جعل علامة تجلبه لكم الساق وعرفهم أنه سيبتلى المكذبين بأن يرسل إليهم من يقول‏:‏ أنا ربكم‏.‏

فتنة لهم ويدل على ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِى الآخِرَةِ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 27‏]‏، فى سؤال القبر، وفى هذا الموطن، وقال ابن عباس فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 42‏]‏ عن شدة الأمر، وروى عن عمر بن الخطاب فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 29‏]‏ أى‏:‏ أعمال الدنيا بمحاسبة الآخرة‏.‏

وذلك أمر عظيم، والعرب تقول‏:‏ قامت الحرب على ساق‏.‏

إذا كانت شديدة فيظهر الله على الخلائق هذه الشدة التى لا يكون مثلها من مخلوق ليبكت بها الكافرين، وينزع عنهم قدرتهم التى كانوا يدعونها، فيعلمون حينئذ أنه الحق، فيذهبون إلى السجود مع المؤمنين لما يرون من العظمة والشدة فلا يستطيعون؛ فيثبت الله المؤمنين فيسجدون له، وذكر ابن فورك قال‏:‏ روى أبو موسى الأشعرى عن النبى صلى الله عليه وسلم فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ ‏(‏قال‏:‏ عن نور عظيم قال‏:‏ ومعنى ذلك ما يتجدد للمؤمنين عند رؤية الله تعالى من الفوائد والألطاف، ويظهر لهم من فضل سرائرهم التى لم يطلع عليها غيره تعالى‏.‏

قال المهلب‏:‏ هذا يدل على أن كشف الساق للكافرين نقمة وعذاب، وللمؤمنين نور ورحمة ونعمة، والضحك منه تعالى بخلاف ما هو فينا وهو بمعنى إظهاره لعباده لطائف وكرامة لم تكن تظهر لهم قبل ذلك، والضحك المعهود فيما بيننا هو إظهار الضاحك لمن شاهده ما لم يكن يظهر له منه قبل من كشره عن أسنانه‏.‏

وأما قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ويبقى من كان يسجد لله رياء وسمعة، فيذهب كيما يسجد فيعود ظهره طبقًا واحدًا‏)‏ هذا استدل به من أجاز تكليف عباده ما لا يطيقون، واحتجوا على ذلك بأن الله تعالى قد كلف أبا لهب الإيمان به مع إعلامه تعالى له أنه لا يؤمن، وأنه يموت على الكفر الذى له يصلى نارًا ذات لهب‏.‏

ومنع الفقهاء من ذلك، وقالوا‏:‏ لا يجوز أن يكلف الله عباده ما لا يطيقون واحتجوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏، قالوا‏:‏ وقدا أخبر فلا يجوز أن يقع بخلاف خبره، وقالوا‏:‏ ليس فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 42‏]‏ حجة لمن خالفنا؛ لأنهم إنما يدعون إلى السجود تبكيتًا لهم؛ إذ أدخلوا أنفسهم بزعمهم فى جملة المؤمنين الساجدين فى الدنيا وعلم الله منهم الرياء فى سجودهم، فدعوا فى الآخرة إلى السجود كما دعى المؤمنون المحقون؛ فتعذر السجود عليهم وعادت ظهورهم طبقًا واحدًا، وأظهر الله عليهم نفاقهم؛ فأخزاهم وأوقع الحجة عليهم، فلا حجة فى هذه الآية لهم، ومثل هذا من التبكيت قوله تعالى للكفار‏:‏ ‏(‏ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 13‏]‏، وليس فى هذا شىء من تكليف ما لا يطاق، وإنما هو خزى وتوبيخ‏.‏

ومثله قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من كذب فى حلمه كلف يوم القيامة أن يعقد بين شعيرتين وليس بعاقدهما‏)‏ فهذه عقوبة وليس من تكليف ما لا يطاق‏.‏

وأما قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فيشفع النبيون والملائكة والمؤمنون‏)‏ ففيه حجة لأهل السنة فى إثباتهم الشفاعة، وقد تقدم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏فأستأذن على ربى فى داره‏)‏ فداره جنته، ولا تعلق فيه للمجسمة أنه تعالى فى مكان؛ لأن قوله‏:‏ ‏(‏فى داره‏)‏ يحتمل أن تكون هذه الإضافة لله إضافة إلى نفسه تعالى من أفعاله، ويحتمل أن يكون قوله فى داره‏.‏

راجعًا إلى النبى تأويله‏:‏ فأستأذن على ربى وأنا فى داره‏.‏

فالظرف والمكان هاهنا للنبى صلى الله عليه وسلم لا لله تعالى لقيام الدليل على استحالة حلوله فى المواضع‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏حتى تلقوا الله ورسوله فإنى على الحوض‏)‏ ففيه إثبات الحوض له صلى الله عليه وسلم خلافًا لمنكريه من المعتزلة وغيرهم ممن يدفع أخبار الآحاد، وجمهور الأمة على خلافهم مؤمنون بالحوض على ما ثبت فى السنن الصحاح‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان‏)‏ ففيه إثبات الرؤية لله تعالى وإثبات كلامه لعباده‏.‏

ورفع الحجاب بينه تعالى وبين خلقه هو تجليه لهم، وليس ذلك بمعنى الظهور والخروج من سواتر وحجب حائلة بينه وبين عباده؛ لأن ذلك من أوصاف الأجسام وهو مستحيل على الله، وإنما رفع الحجاب بمعنى إزالته الآفات من أبصار خلقه المانعة لهم من رؤيته؛ فيرونه لارتفاعها عنهم بخلق ضدها فيهم، وهو الرؤية، وبخلاف هذا وصف الله الكفار فقال‏:‏ ‏(‏كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 15‏]‏، فالحاجب هنا الآفة المانعة من رؤيته التى لو فعل تعالى ضدها فيهم لرأوه، وهى التى فعل فى المؤمنين‏.‏

وقوله فى الحديث الآخر‏:‏ ‏(‏وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه فى جنة عدن‏)‏ فلا تعلق فيه للمجسمة فى إثبات الجسم والمكان لما تقدم من استحالة كونه جسمًا أو حالا فى مكان؛ فوجب أن يكون تأويل الرداء مصروفًا إلى أن المراد به الآفة المانعة لهم من رؤيته الموجودة بأبصارهم، وذلك فعل من أفعاله تعالى يفعله فى محل رؤيتهم له بدلا من فعله الرؤية، فلا يرونه ما دام ذلك المانع لهم من رؤيته وسماه رداء مجازًا واتساعًا؛ إذ منزلته في المنع من رؤيته منزلة الرداء وسائر ما يحتجب به والله تعالى لا يليق به الحجب والستار؛ إذ ذاك من صفات الأجسام‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏على وجهه‏)‏ المراد به‏:‏ أن الآفة المانعة لهم من رؤية وجهه تعالى التى هى صفة من صفات ذاته كأنها على وجهه؛ لكونها فى أبصارهم ومانعة لهم من رؤيته، فعبر عن هذا المعنى بهذا اللفظ، والمراد به غير ظاهره؛ إذ يستحيل كون وجهه محجوبًا برداء أو غيره من الحجب؛ إذ ذاك من صفات الأجسام‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏فى جنة عدن‏)‏ ليس بمكان له تعالى، وإنما هو راجع إلى القوم كأنه قال‏:‏ وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم وهم فى جنة عدن إلا المانع المخلوق فى محل رؤيتهم له من رؤيته فلا حجة لهم فيه‏.‏

وقوله فى حديث أبى سعيد‏:‏ ‏(‏ونحن أحوج منا إليه اليوم‏)‏‏.‏

لا يخرج معناه إلا أن يكون بمعنى محتاجين، وهذا موجود فى القرآن قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 125‏]‏، بمعنى عالم، فسقط على هذا التأويل شيئًا من تقدير الكلام، ومعناه‏:‏ فارقناهم‏:‏ يريد من لم يعبد الله‏.‏

ونحن أحوج ما كنا إليه‏:‏ يعنون الله‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏فما أنتم بأشد لى مناشدة فى الحق قد تبين لكم من المؤمن يومئذ للجبار، فإذا راوا أنهم قد نجوا فى إخوانهم‏)‏ يريد أن المؤمنين إذا نجوا من الصراط يناشدون الله فى إخوانهم ويشفعون فيهم فيقول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏اذهبوا فمن وجدتم فى قلبه مثقال نصف دينار‏.‏‏.‏

إلى مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه، فيخرجون من عرفوا من النار‏)‏ وفى هذا إثبات شفاعة المؤمنين بعضهم لبعض‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏فى جهنم كلاليب‏)‏ جمع كلوب، وهو الذى يتناول به الحداد الحديد من النار، والخطاطيف جمع خطاف، والخطاف حديدة معوجة الطرف يجذب بها الأشياء، قال النابغة‏:‏ خطاطيف حجن فى حبال متينة والحسك‏:‏ معروف، وهو شىء مضرس ذو شوك ينشب به كل ما مر به‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏فمنهم الموبق بعمله‏)‏ يعنى‏:‏ الهالك بذنوبه‏.‏

يقال‏:‏ أوبقت فلانًا ذنوبه أى‏:‏ أهلكته‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏ومنهم المخردل‏)‏ قال صاحب العين‏:‏ خردلت اللحم‏:‏ فصلته، وخردلت الطعام‏:‏ أكلت خياره‏.‏

وقال غيره‏:‏ خردلته‏:‏ صرعته، وهذا الوجه يوافق معنى الحديث، والجردلة بالجيم، الإشراف على السقوط والهلكة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏امتحشوا‏)‏ قال صاحب العين‏:‏ المحش‏:‏ إحراق الجلد، وامتحش الجلد احترق، وألسنة المحوش‏:‏ اليابسة‏.‏

وقال صاحب الأفعال‏:‏ محشت النار الشىء محشًا‏:‏ أحرقته لغة، والمعروف أمحشته، وكان أبو زيد ينكر محشته، وقعد يومًا إلى أبى حنيفة فسمعه يقول‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يخرج من النار قوم قد محشتهم النار‏)‏‏.‏

فقال أبو زيد‏:‏ ليس كذلك الحديث، يرحمك الله، إنما هو‏:‏ ‏(‏أمحشتهم النار‏)‏ فقال أبو جنيفة‏:‏ من أى موضع أنت‏؟‏ قال أبو زيد‏:‏ من البصرة‏.‏

قال أبو حنيفة‏:‏ أبالبصرة مثلك‏؟‏ قال أبو زيد‏:‏ إنى لمن أخس أهلها‏.‏

فقال أبو حنيفة‏:‏ طوبى لبلد أنت أخس أهلها‏.‏

والحبة‏:‏ بزور البقل، وقد ذكرته فى كتاب الإيمان فى باب تفاضل أهل الإيمان فى الأعمال وقال أبو عبيد‏:‏ وأما الحبة فكل ما ينبت له حب فاسم الحب منه الحبة‏.‏

وقال الفراء‏:‏ الحبة بزور البقل‏.‏

وقال أبو عمرو‏:‏ الحبة نبت ينبت فى الحشيش صغار‏.‏

وقال الكسائى‏:‏ الحبة حب الرياحين وواحد الحبة حبة‏.‏

وأما الحنطة ونحوها فهو الحب لا غير‏.‏

وقال الأصمعى‏:‏ الحميل ما حمله السيل من كل شىء وكل محمول فهو حميل كما يقال للمقتول قتيل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏قشبنى ريحها‏)‏ تقول العرب‏:‏ قشبت الشئ‏:‏ قذرته وقشبت الشىء، بكسر الشين، قشبًا قذر صاحب الأفعال‏.‏

وقال ابن قتيبة‏:‏ قشبنى ريحها من القشب والقشب‏:‏ السم كأنه قال‏:‏ سمنى ريحها، ويقال لكل مسموم قشيب‏.‏

وقال الخطابى‏:‏ قشبه الدخان إذا مل خياشيمه وأخذ يكظمه وإن كانت ريحه طيبة، وأصل القشب خلط السم بالطعام يقال‏:‏ قشبه إذا سمه وقشبتنا الدنيا فصار حبها كالسم الضار، ثم قيل على هذا قشبه الدخان والريح الذكية إذا بلغت منه الكظم‏.‏

وقوله‏:‏ انفهقت يعنى‏:‏ اتسعت وفهق الغدير فهقًا إذا امتلأ ومنه التفيهق فى القول، وهو كثرة الكلام‏.‏

وغبرات‏:‏ بقايا وكذلك غبر الشىء بقيته؛ وقوله‏:‏ الجسر مدحضة مزلة‏.‏

يقال دحضت رجله دحضًا زلفت، والدحض ما يكون عنه الزلق، ودحضت الشمس عن كبد السماء‏:‏ زالت، ودحضت حجته‏:‏ بطلت، والمزلة‏:‏ موضع الزلل، فزلت القدم‏:‏ سقطت، وقوله‏:‏ مكدوس فى نار جهنم‏.‏

قال صاحب العين‏:‏ التكدس فى سير الدواب‏:‏ ركوب بعضها بعضًا، والكدس ما يجمع من طعام وغيره، وأفواه الجنة‏:‏ أبوابها واحدها فوهة، وفى كتاب العين الفوهة‏:‏ فم النهر وفم الزقاق‏.‏

باب قَوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 56‏]‏

- فيه‏:‏ أُسَامَة، كَانَ ابْنٌ لِبَعْضِ بَنَاتِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم يَقْضِى، إلى قوله‏:‏ ‏(‏فَبَكَى النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ سَعْدُ‏:‏ أَتَبْكِى‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اخْتَصَمَتِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ إِلَى رَبّهِمَا، فَقَالَتِ الْجَنَّةُ‏:‏ يَا رَبِّ، مَا لَهَا لا يَدْخُلُهَا إِلا ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقَطُهُمْ، وَقَالَتِ النَّارُ‏:‏ يَعْنِى أُوثِرْتُ بِالْمُتَكَبِّرِينَ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْجَنَّةِ‏:‏ أَنْتِ رَحْمَتِى، وَقَالَ لِلنَّارِ‏:‏ أَنْتِ عَذَابِى، أُصِيبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا مِلْؤُهَا، قَالَ‏:‏ فَأَمَّا الْجَنَّةُ، فَإِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِنْ خَلْقِهِ أَحَدًا، وَإِنَّهُ يُنْشِئُ لِلنَّارِ مَنْ يَشَاءُ، فَيُلْقَوْنَ فِيهَا فَ‏)‏ تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 30‏]‏ ثَلاثًا، حَتَّى يَضَعَ فِيهَا قَدَمَهُ، فَتَمْتَلِئُ، وَيُرَدُّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، وَتَقُولُ‏:‏ قَطْ، قَطْ، قَطْ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَس، قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لَيُصِيبَنَّ أَقْوَامًا سَفْعٌ مِنَ النَّارِ بِذُنُوبٍ أَصَابُوهَا عُقُوبَةً، ثُمَّ يُدْخِلُهُمُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ، يُقَالُ لَهُمُ‏:‏ الْجَهَنَّمِيُّونَ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ الرحمة تنقسم قسمين‏:‏ تكون صفة ذات لله، وتكون صفة فعل، فصفة الذات مرجوع بها إلى إرادته تعالى إثابة الطائعين من عباده، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 56‏]‏، يحتمل الرحمة هاهنا أن تكون صفة ذات ترجع إلى إرادته إثابة المحسنين كما قلنا وإرادته صفة ذاته‏.‏

ومثله قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنما يرحم الله من عباده الرحماء‏)‏ معناه إنما يريد إثابة الرحماء لعباده من خلقه، ويحتمل أن تكون صفة فعل فيكون المعنى أن نعمة الله على عباده ورزقه لهم ونزول المطر وشبهه قريب من المحسنين، فسمى ذلك رحمة لهم لكونه بقدرته وعن إرادته مجازًا واتساعًا؛ لأن من عادة العرب تسمية الشىء باسم سببه وما يتعلق به ضربًا من التعلق، وعلى هذا المعنى سمى الله الجنة رحمةً فقال‏:‏ ‏(‏أنت رحمتى‏)‏ فسماها مع كونها فعلاً من أفعاله رحمةً؛ إذ كانت حادثةً بقدرته وإرادته تنعيم الطائعين من عباده‏.‏

قال المهلب‏:‏ وأما اختصام الجنة والنار فيجوز أن يكون حقيقةً، ويجوز أن يكون مجازًا، فكونه حقيقةً يخلق الله فيهما حياةً وفهمًا وكلامًا لقيام الدليل على كونه تعالى قادرًا على ذلك، وكونه مجازًا واتساعًا فهو على ما تقوله العرب من نسبة الأفعال إلى ما لا يجوز وقوعها منه فى تلك الحال كقولهم‏:‏ امتلأ الحوض وقال قطنى‏.‏

والحوض لا يقول، وإنما ذلك عبارة عن امتلائه، وأنه لو كان ممن يقول لقال ذلك، وقولهم‏:‏ قالت الضفدع، وعلى هذين التأويلين يحمل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 30‏]‏، واختصام الجنة والنار هو افتخار بعضهما على بعض بمن يسكنهما، فالنار تتكبر بمن يلقى فيها من المتكبرين وتظن أنها آثر بذلك عند الله من الجنّة وسقط قول النار من هذا الحديث فى جميع النسخ، وهو محفوظ فى الحديث‏:‏ ‏(‏وقالت النار‏:‏ أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين‏)‏ رواه ابن وهب، عن مالك، عن أبى الزناد، عن الأعرج، عن أبى هريرة من رواية الدارقطنى، وتظن الجنة ضد ذلك لقولها‏:‏ ‏(‏ما لى لا يدخلنى إلا ضعفاء الناس وسقطهم‏)‏ فكأنها أشفقت من إيضاع المنزلة عند الرب تعالى‏.‏

فحكم تعالى للجنة بأنها رحمته لا يسكنها إلا الرحماء من عباده، وحكم للنار بأنها عذابه يصيب بها من يشاء من المتكبرين، وأنه ليس لإحديهما فضل من طريق من يسكنها الله تعالى من خلقه، إذ هما اللتان للرحمة والعذاب، ولكن قد قضى لهما بالملء من خلقه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏وينشىء للنار خلقًا‏)‏ يريد من قد شاء أن يلقى فيها ممن قد سبق له الشقاء ممن عصاه وكفر به، قاله المهلب‏.‏

وقال غيره‏:‏ ينشىء الله لها خلقًا لم يكن فى الدنيا، قال‏:‏ وفيه حجة لأهل السنة فى قولهم إن لله أن يعذب من لم يكن يكلفه عبادته فى الدنيا ولا يخرجه إليها لقوله‏:‏ ‏(‏وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 27‏]‏ بخلاف من يقول إن الله لو عذّب من لم يكلفه لكان ظالمًا، وهذا الحديث حجة عليهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏حتى يضع فيها قدمه‏)‏ قد تقدم فى باب قوله‏:‏ ‏(‏وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 4‏]‏ من كتاب التوحيد‏.‏

باب قَوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ أَنْ تَزُولا‏}‏ الآية ‏[‏فاطر‏:‏ 41‏]‏

- فيه‏:‏ عَبْدِاللَّهِ بْن مسعود، جَاءَ حَبْرٌ إِلَى النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ‏:‏ يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللَّهَ يَضَعُ السَّمَاءَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْجِبَالَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالشَّجَرَ وَالأنْهَارَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَسَائِرَ الْخَلْقِ عَلَى إِصْبَعٍ، ثُمَّ يَقُولُ بِيَدِهِ أَنَا الْمَلِكُ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ‏:‏ ‏(‏وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 91‏]‏‏.‏

وقد تقدّم تفسير هذا الحديث فى باب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 75‏]‏، قال المهلب‏:‏ فإن قيل‏:‏ ما وجه حديث الحبر فى هذا الباب مع قوله‏:‏ ‏(‏إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ أَنْ تَزُولا‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 41‏]‏، وظاهر الآية وعمومها يقتضى أن السموات والأرض ممسكة بغير آلة يعتمد عليها، وقد ذكر الحبر للنبى صلى الله عليه وسلم أن الله يمسك السموات على إصبع والأرض على إصبع، فدل أن حديث الحبر وتفسيره الإمساك بالأصابع هذا لبيان المجمل من الإمساك فى الآية‏؟‏ قيل له‏:‏ ليس كما توهمت، وتفسير النبى ورده على الحبر، وقوله‏:‏ ‏(‏وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 91‏]‏ هو رد لما توهمه الحبر من الأصابع أى أن الله أجل مما قدرت، وذلك أن اليهود تعتقد التجسيم، فنفى النبى صلى الله عليه وسلم ذلك عنه بقوله‏:‏ ‏(‏وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ‏}‏‏.‏

فإن قيل‏:‏ فإن تصديق النبى للحبر وتعجبه من قوله يدل أنه لم ينكر قوله كل الإنكار، ولو لم يكن لقوله بذكر الأصابع وجه لأعلن بإبطاله‏.‏

فالجواب‏:‏ أنه لو كانت السموات وغيرها مفتقرة إلى الأصابع لكانت الأصابع مفتقرة إلى أمثالها تعتمد عليها، وأمثال أمثالها إلى مثلها، ثم كذلك إلى ما لا نهاية له، وهذا فاسد، وقد تقدم قول الأشعرى وابن فورك وأن الإصبع يجوز أن تكون صفة ذات لله تعالى ويجوز أن تكون صفة خلق له من بعض ملائكته كلفهم حمل الخلائق وتعبدّهم بذلك من غير حاجة إليهم فى حملها، بل البارى ممسكهم وممسك ما يحملونه بقدرته تعالى، ويصدق هذا التأويل قوله‏:‏ ‏(‏وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 17‏]‏‏.‏

باب مَا جَاءَ فِى خلق السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَغَيْرِهَما مِنَ الْمخلوقات

وَهُوَ فِعْلُ الرَّبِّ تَعَالَى وَأَمْرُهُ، فَالرَّبُّ بِصِفَاتِهِ وَفِعْلِهِ وَأَمْرِهِ وَقَوله، وَهُوَ الْخَالِقُ الْمُكَوِّنُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَمَا كَانَ بِفِعْلِهِ وَأَمْرِهِ، وَتَخْلِيقِهِ وَتَكْوِينِهِ، فَهُوَ مَفْعُولٌ مُكَوَّنٌ مَخْلُوقٌ‏.‏

- فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، بِتُّ فِى بَيْتِ مَيْمُونَةَ لَيْلَةً، وَالنَّبِيُّ عليه السلام عِنْدَهَا؛ لأنْظُرَ كَيْفَ صَلاةُ النَّبِىّ عليه السلام فَتَحَدَّثَ النَّبِيّ عليه السلام مَعَ أَهْلِهِ سَاعَةً، ثُمَّ رَقَدَ، فَلَمَّا كَانَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ أَوْ بَعْضُهُ، قَعَدَ فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَرَأَ‏:‏ ‏(‏إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 190‏]‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏لأولِى الألْبَابِ ‏(‏الحديث‏.‏

غرضه فى هذا الباب أن يعرفك أن السموات والأرض وما بينهما كل ذلك مخلوق دلائل الحدث بها من الآيات المشاهدات، من انتظام الحكمة واتصال المعيشة للخلق فيهما، وقام برهان العقل على ألا خالق غير الله وبطل قول من يقول‏:‏ إن الطبائع خالقة العالم، وأن الأفلاك السبعة هى الفاعلة، وأن النور والظلمة خالقان، وقول من زعم أن العرش هو الخالق‏.‏

وفسدت جميع هذه الأقوال لقيام الدليل على حدوث ذلك كله وافتقاره إلى محدث لاستحالة وجود محدث لا محدث له، كاستحالة وجود مضروب لا ضارب له، وكتاب الله شاهد بصحة هذا، وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 3‏]‏، فنفى خالقًا سواه، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ جَعَلُوا لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُوا كَخَلْقِهِ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 16‏]‏، وقال عقيب ذلك‏:‏ ‏(‏فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 16‏]‏، ثم قال لنبيه‏:‏ ‏(‏قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 16‏]‏، ودلّ على ذلك أيضًا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِى الألْبَابِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 190‏]‏‏.‏

فاستدل بآيات السموات والأرض على قدرة الله ووحدانيته فوجب أن يكون الخلاق العليم بجميع صفاته من الخلق والأمر والفعل والسمع والبصر والتكوين للمخلوقات كلها خالقًا غير مخلوق الذات والصفات، وأن القرآن صفة له غير مخلوق، ووجب أن يكون الخالق مخالفًا لسائر المخلوقات، ووجه خلافه لها انتفاء قيام الحوادث عنه الدالة على حدث من تقوم به، ولزم أن يكون ما سواه من مخلوقاته التى كانت عن قوله وأمره وفعله وتكوينه مخلوقات له، هذا موجب العقل‏.‏

باب قَوله‏:‏ ‏(‏إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْءٍ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 40‏]‏

- فيه‏:‏ الْمُغِيرَة، سَمِعْتُ النَّبِىَّ عليه السَّلام يَقُولُ‏:‏ ‏(‏لا يَزَالُ مِنْ أُمَّتِى قَوْمٌ ظَاهِرِينَ عَلَى النَّاسِ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ‏)‏‏.‏

وقال مرة‏:‏ ‏(‏لا تَزَالُ مِنْ أُمَّتِى أُمَّةٌ قَائِمَةٌ بِأَمْرِ اللَّهِ، مَا يَضُرُّهُمْ مَنْ كَذَّبَهُمْ، وَلا مَنْ خَالَفَهُمْ‏)‏‏.‏

وقال مُعَاوِيَة‏:‏ وَهُمْ بِالشَّأْمِ‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، وَقَفَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى مُسَيْلِمَةَ فِى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏لَوْ سَأَلْتَنِى هَذِهِ الْقِطْعَةَ مَا أَعْطَيْتُكَهَا، وَلَنْ تَعْدُوَ أَمْرَ اللَّهِ فِيكَ، وَلَئِنْ أَدْبَرْتَ لَيَعْقِرَنَّكَ اللَّهُ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن مَسْعُود، بَيْنَما أَنَا أَمْشِى مَعَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَتَوَكَّأُ عَلَى عَسِيبٍ مَعَهُ، فَمَرَرْنَا عَلَى نَفَرٍ مِنَ الْيَهُودِ، فسَألُوهُ عَنِ الرُّوحِ، فَأَنَزل عليه‏:‏ ‏(‏وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 85‏]‏ الآية‏.‏

غرضه فى هذا الباب الرد على المعتزلة فى قولهم‏:‏ إن أمر الله الذى هو كلامه مخلوق، فأراد البخارى أن يعرفك أن الأمر هو قوله للشىء إذا أراده كن فيكون بأمره له وأن أمره وقوله فى معنى واحد، وذلك غير مخلوق وأنه سبحانه يقول كن على الحقيقة، وأن الأمر غير الخلق لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 54‏]‏، ففصل بينهما بالواو وهو قول جميع أهل السنة، وزعمت المعتزلة أن وصفه نفسه بالأمر وبالقول فى هذه الآية مجاز واتساع على نحو ما تقول العرب‏:‏ قال الحائط فمال وامتلأ الحوض، وقال قطنى‏.‏

وقولهم فاسد؛ لأنه عدول عن ظاهر الآية وحملها على غير حقيقتها، وإنما وجب حمل الآية على ظاهرها وحقيقتها لثبات كونه حيًا، والحى لا يستحيل أن يكون متكلمًا‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏حتى يأتيهم أمر الله‏)‏ يعنى أمر الله بالساعة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏لن تعدو أمر الله فيك‏)‏ أى ما قدر فيك من الشقاء أو السعادة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 85‏]‏ أى من أمره المتقدّم بما سبق فى علمه من القضاء المحتوم الذى أمر به الملك أن يكتبه فى بطن أمه قبل نفخ الروح فيه‏.‏

باب فِى الْمَشِيئَةِ وَالإرَادَةِ

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تُؤْتِى الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 26‏]‏،‏)‏ وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رب العالمين‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 30‏]‏،‏)‏ وَلا تَقُولَنَّ لِشَىْءٍ إِنِّى فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 23‏]‏‏)‏ إِنَّكَ لا تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَنْ يَشَاءُ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 56‏]‏‏.‏

قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِيهِ‏:‏ نَزَلَتْ فِى أَبِى طَالِبٍ‏.‏

معنى هذا الباب‏:‏ إثبات المشيئة والإرادة لله تعالى وأن مشيئته وإرادته ورحمته وغضبه وسخطه وكراهيته كل ذلك بمعنىً واحد أسماء مترادفة هى راجعة كلها إلى معنى الإرادة، كما يسمى الشىء الواحد بأسماء كثيرة، وإرادته تعالى هى صفة من صفات ذاته خلافًا لمن يقول من المعتزلة أنها مخلوقة من أوصاف أفعاله، وقولهم فاسد لأنهم إذا أثبتوه تعالى مريدًا، وزعموا أن إرادته محدثة لم تخل من أن يحدثها في نفسه أو فى غيره، أو لا فى نفسه ولا فى غيره، وهذا الذى ذهبوا إليه، فيستحيل إحداثه لها فى نفسه؛ لأنه لو أحدثها فى نفسه لم يخل منها ومن ضدها على سبيل التعاقب، ولا يجوز تعاقب الحوادث على الله تعالى لقيام الدليل على قدمه قبلها، ويستحيل أن يحدثها فى غيره؛ لأنه لو أحدثها فى غيره لوجب أن يكون ذلك الغير مريدًا بها دونه، فبطل كونه مريدًا بإرادة أحدثها فى غيره كما يبطل كونه عالمًا بعلم يحدثه فيه، أو قادرًا بقدرة يحدثها فيه؛ لأن قياس ذلك كله واحد، ومن شرط المريد وحقيقته أن تكون الإرادة موجودةً فيه دون من سواه، ويستحيل إحداثه لها إلا فى نفسه ولا فى غيره؛ لأن ذلك يوجب قيامها بنفسها واحتمالها للصفات وأضدادها، ولو صح ذلك لم تكن إرادته له أولى أن تكون لغيره، وإذا فسدت هذه الأقسام الثلاث وجب أن الإرادة قديمةً قائمةً به تعالى لأجل قيامها به وصح كونه مريدًا، ووجب تعلقها بكل ما يصحّ كونه مرادًا له، وهذه المسألة مبنية على صحة القول بكونه تعالى خالقًا لأفعال العباد، وأنهم لا يفعلون إلا ما يشاء، وقد دلّ الله على ذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 30‏]‏، وما تلاه من الآيات، وبقوله‏:‏ ‏(‏وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ‏(‏فنصّ الله تعالى على أنه لو شاء أن لا يقتتلوا لما اقتتلوا، فدل أنه تعالى شاء ما شاءوه من اقتتالهم، وأنه لو لم يشأ اقتتالهم لم يشاءوه ولا كان موجودًا، ثم أكد ذلك بقوله‏:‏ ‏(‏وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ‏(‏يدل أنه فعل اقتتالهم الواقع منهم لكونه شائيًا له، وإذا كان شائيًا لاقتتالهم وفاعلا له، ووجب كونه شائيًا لمشيئتهم وفاعلا لها، فثبت بهذه الآية أنه لا كسب للعباد طاعة ومعصية إلا وهو فعل له ومراد له تعالى، وإن لم يرده منهم لم يصح وقوعه، وما أراده منهم فواجب قول القدرية أنه مريد للطاعة من عباده، وغير مريد للمعصية وقد بان فساد هذا من قولهم أن أفعال العباد خلق لله فى هذا الباب وغيره‏.‏

باب‏:‏ ‏{‏يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 185‏]‏

- فيه‏:‏ أَنَس، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِذَا دَعَوْتُمُ اللَّهَ فَاعْزِمُوا فِى الدُّعَاءِ، وَلا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ‏:‏ إِنْ شِئْتَ فَأَعْطِنِى، فَإِنَّ اللَّهَ لا مُسْتَكْرِهَ لَهُ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عَلِىّ، أَنَّ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ ابِنْته، فَقَالَ لَهُمْ‏:‏ ‏(‏أَلا تُصَلُّونَ‏)‏‏؟‏ قَالَ عَلِىٌّ‏:‏ فَقُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ، فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ خَامَةِ الزَّرْعِ يَفِىءُ وَرَقُهُ مِنْ حَيْثُ أَتَتْهَا الرِّيحُ تُكَفِّئُهَا فَإِذَا سَكَنَتِ اعْتَدَلَتْ، وَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ يُكَفَّأُ بِالْبَلاءِ، وَمَثَلُ الْكَافِرِ كَمَثَلِ الأرْزَةِ، صَمَّاءَ مُعْتَدِلَةً حَتَّى يَقْصِمَهَا اللَّهُ إِذَا شَاءَ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِيّ عليه السلام‏:‏ ‏(‏إِنَّمَا بَقَاؤُكُمْ فِيمَا سَلَفَ مِنَ الأمَمِ، كَمَا بَيْنَ صَلاةِ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ وذكر الحديث إلى قوله‏:‏ ‏(‏فَذَلِكَ فَضْلِى أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عُبَادَة، قَالَ‏:‏ ‏(‏بَايَعْتُ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم فِى رَهْطٍ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ لا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلا تَسْرِقُوا، وَلا تَزْنُوا، وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ، وَلا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلا تَعْصُونِى فِى مَعْرُوفٍ، فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَأُخِذَ بِهِ فِى الدُّنْيَا، فَهُوَ لَهُ كَفَّارَةٌ وَطَهُورٌ، وَمَنْ سَتَرَهُ اللَّهُ فَذَلِكَ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ سُلَيْمَانَ كَانَ لَهُ سِتُّونَ امْرَأَةً، فَقَالَ‏:‏ لأطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى نِسَائِى، فَلْتَحْمِلْنَ كُلُّ امْرَأَةٍ، وَلْتَلِدْنَ فَارِسًا، يُقَاتِلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، فَطَافَ عَلَى نِسَائِهِ، فَمَا وَلَدَتْ مِنْهُنَّ إِلا امْرَأَةٌ وَلَدَتْ شِقَّ غُلامٍ‏)‏، قَالَ نَبِىُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ولَوْ اسْتَثْنَى لَحَمَلَتْ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ، فَوَلَدَتْ فَارِسًا يُقَاتِلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو قَتَادَةَ، حِينَ نَامُوا عَنِ الصَّلاةِ، قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِنَّ اللَّهَ قَبَضَ أَرْوَاحَكُمْ حِينَ شَاءَ، وَرَدَّهَا حِينَ شَاءَ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، اسْتَبَّ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَرَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ‏.‏‏.‏‏.‏

وذكر الحديث إلى قول النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تُخَيِّرُونِى عَلَى مُوسَى، فَإِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ، فَإِذَا مُوسَى بَاطِشٌ بِجَانِبِ الْعَرْشِ، فَلا أَدْرِى أَكَانَ فِيمَنْ صَعِقَ فَأَفَاقَ قَبْلِى، أَوْ كَانَ مِمَّنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَس، قَالَ النَّبِيّ عليه السلام‏:‏ ‏(‏الْمَدِينَةُ يَأْتِيهَا الدَّجَّالُ، فَيَجِدُ الْمَلائِكَةَ يَحْرُسُونَهَا، فَلا يَقْرَبُهَا الدَّجَّالُ، وَلا الطَّاعُونُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لِكُلِّ نَبِىٍّ دَعْوَةٌ، فَأُرِيدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ أَخْتَبِىَ دَعْوَتِى شَفَاعَةً لأمَّتِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام‏:‏ ‏(‏بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ، رَأَيْتُنِى عَلَى قَلِيبٍ، فَنَزَعْتُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ أَنْزِعَ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو مُوسَى، كَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَتَاهُ السَّائِلُ، أَوْ صَاحِبُ الْحَاجَةِ، قَالَ‏:‏ ‏(‏اشْفَعُوا فَلْتُؤْجَرُوا، ولَيَقْضِى اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نبيه مَا شَاءَ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، أن أُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ حدثه بحديث الخضر‏.‏‏.‏‏.‏

إلى قوله‏:‏ ‏(‏فَإِنِّى نَسِيتُ الْحُوتَ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 63‏]‏ الحديث‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏نَنْزِلُ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِخَيْفِ بَنِى كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ‏)‏، يُرِيدُ الْمُحَصَّبَ‏.‏

- وفيه‏:‏ عَبْدِاللَّهِ ابْنِ عُمَرَ، حَاصَرَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم أَهْلَ الطَّائِفِ، فَلَمْ يَفْتَحْهَا، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّا قَافِلُونَ غَدًا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏، وذكر الحديث‏.‏

معنى هذا الباب كمعنى الذى قبله فى إثبات الإرادة لله تعالى والمشيئة، وأن العباد لا يريدون شيئًا إلا وقد سبقت إرادة الله له، وأنه خالق لأعمالهم‏:‏ طاعة كانت أو معصية، وأما تعلقهم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 185‏]‏ فى أنه لا يرد المعصية فليس على العموم؛ وإنما هو خاص فيمن ذكر، ولم يكلفه ما لا يطيق‏.‏

مثل هذا للمؤمنين المفترض عليهم الصيام، ومن هداه الله إلى دينه فقد يسره وأراد به اليسر، فكان المعنى‏:‏ يريد الله بكم اليسر الذى هو التخيير بين صومكم فى السفر، وإفطاركم فيه بشرط قضاء ما أفطرتموه من أيام أخر، ولا يريد بكم العسر، الذى هو إلزامكم الصوم فى السفر على كل حال؛ فبان من نفس الآية أن الله رفع هذا العسر عنا ولم يرد وقوعه بنا، إذ لم يلزمنا الصيام فى السفر على كل حال، ورحمةً منه ورأفةً بنا؛ فسقط تعلقهم بالآية، وكذلك تأويل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 7‏]‏ هو على الخصوص فى المؤمنين الذين أراد منهم الإيمان، فكان ما أراده من ذلك، ولم يرد منهم الكفر فلم يكن، فلا تعلق لهم فى هذه الآية أيضًا‏.‏

فإن قيل‏:‏ قد تقدم من قولكم أن الله تعالى خالق لأعمال العباد، فما وجه إضافة فتى موسى نسيان الحوت إلى نفسه مرةً، وإلى الشيطان أخرى‏.‏

فالجواب‏:‏ أن فتى موسى نبى وخادم نبى، وقد تقدم من قول موسى أن أفعاله مخلوقة لله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنْ هِىَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِى مَن تَشَاء‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 155‏]‏، فثبت أن إضافة النسيان إلى نفسه لأجل قيامه به، لا أنه مخترع له، والعرب تضيف الفعل إلى من وجد منه، وإن لم يكن مخترعًا له، وقد نطق بذلك القرآن فى مواضع كثيرة، وكذلك إضافته النسيان إلى الشيطان، فليس على معنى أن الشيطان فاعل لنسيانه، وإنما تأويله أنه وسوس إلىّ حتى نسيت الحوت؛ لأن فتى موسى إذ لم يمكنه أن يفعل نسيانه القائم به كان الشيطان أبعد من أن يفعل فيه نسيانًا، وكانت إضافته إليه على سبيل المجاز والاتساع‏.‏

قال المهلب‏:‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يقولن أحدكم، إن شئت فاعطنى‏)‏ فمعناه والله أعلم أن سؤاله الله على شرط المشيئة يوهم أن إعطاءه تعالى يمكن على غير مشيئته، وليس بعد المشيئة وجه إلا الإكراه؛ والله لا مكره له كما قال صلى الله عليه وسلم، والعبارة الموهمة فى صفات الله غير جائزة عند أهل السنة؛ لما فى ذلك من الزيغ بأقل توهم يقع فى نفس السامع لنلك العبارة ثم إن حقيقة السؤال من الله تعالى، هو أن يكون السائل محتاجًا إلى ما سأل، محققًا فى سؤاله، ومتى طلب بشرط لم يحقق الطلب؛ فلذلك أمره بالعزم فى طلب الحاجة‏.‏

وأما قول على‏:‏ ‏(‏إن أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا‏)‏ ففيه‏:‏ أن إرادة العبد للعمل ولتركه لا يكون إلا عن إرادة الله ومشيئته، بخلاف قول القدرية أن للإنسان إرادةً ومشيئةً دون إرادة الله، وقد تقدم أن ذلك كله من عمل العبد مخلوق لله، مراد له على حسب ما أراد من طاعة أو معصية، ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏المؤمن كخامة الزرع‏)‏ فى هذا الباب‏:‏ أن المؤمن يألم فى الدنيا بما يبتليه الله به من المراض التى يمتحنه بها، فييسره للصبر عليها والرضا بحكم ربه واختياره له؛ ليفرح بثواب ذلك فى الآخرة، والكافر كلما صح فى الدنيا وسلم من آفاتها كان موته أشد عذابًا عليه، وأعظم ألمًا فى مفارقة الدنيا، فثبت أن الله تعالى قد أراد بالمؤمن بكل عسر يسرًا، وأراد بكل ما آتاه الكافر من اليسر عسرًا، وقد تقدم فى أول كتاب المرضى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏فذلك فضلى أوتيه من أشاء‏)‏ فذلك بين فى أن الإرادة هى المشيئة على ما تقدم بيانه؛ إذ الفضل عطاء من له أن يتفضل به، وله ألا يتفضل، وليس من كان عليه حق فأداه أو فعل ما عليه فعله يسمى متفضلاً، وإنما هو من باب الأداء والوفاء بحق ما لزمه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏فلو قال إن شاء الله لقاتلوا فرسانًا أجمعون‏)‏ فوجهه أنه لما نسى أن يرد الأمر لله الخالق العليم، ويجعل المشيئة إليه كما شرط فى كتابه، إذ يقول‏:‏ ‏(‏وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 30‏]‏،‏)‏ وَلا تَقُولَنَّ لِشَىْءٍ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 23‏]‏‏.‏

فأشبه قوله‏:‏ ‏(‏لأطوفن الليلة‏)‏ قول من جعل لنفسه الحول والقوة؛ فحرمه الله تعالى مراده وما أمله‏.‏

وأما قوله للأعرابى‏:‏ ‏(‏لا بأس عليك طهور إن شاء الله‏)‏ فإنما أراد تأنيسه من مرضه بأن الله يكفر ذنوبه، ويقيله، ويؤخر وفاته فوقع الاستثناء على ما رجا له من الإقالة والفرج؛ لأن المرض معلوم أنه كفارة للذنوب، وإن كان الاستثناء قد يكون بمعنى رد المشيئة إلى الله تعالى، وفى جواب الأعرابي ما يدل على ما قلناه، وهو قوله‏:‏ حمى تفور على شيخ كبير تزيره القبور‏.‏

أى ليس كما رجوت من الإقالة‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فنعم إذًا‏)‏ دليل على أن قوله‏:‏ ‏(‏لا بأس عليك‏)‏، أنه على طريق الرجاء لا على طريق الخبر عن الغيب، وكذلك قوله‏:‏ ‏(‏إن الله قبض أرواحنا حين شاء، وردها حين شاء‏)‏‏.‏

وحديث عبادة، وحديث أبى هريرة فى قصة موسى صلى الله عليه وسلم، وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا أدرى أكان فيمن صعق، فأفاق قبلى، أو ممن استثنى الله‏)‏، فيها كلها إثبات المشيئة لله تعالى، وفيه فضيلة موسى؛ لأن الأمة أجمعت على أن النبى صلى الله عليه وسلم أفضل البشر، فإن كان لم يصعق موسى حين صعق الناس، ففيه من الفقه أن المفضول قد يكون فيه فضيلة خاصة لا تكون فى الفاضل‏.‏

واستثناء النبى صلى الله عليه وسلم فى دخول الدجال والطاعون المدينة، هو من باب التأدب لا على الشك الذى لا يجوز على الله تعالى ووجه التحريض على سكنى المدينة لأمته؛ ليحترسوا بها من الفتنة فى الدين؛ لأن المدينة أصل دينه فلم يسلط الله على سكانها المعتصمين بها فتنة الدجال، ولا الطاعون لاعتصام سكانها بها من الفتنة الكبرى، وهى الكفر المستأصل عقوبته، فكذلك لا يستأصلهم بالموت بالطاعون الذى كان من عقوبات بنى إسرائيل‏.‏

وأما قوله فى الصديق ‏(‏أنه نزع من البئر ما شاء الله أن ينزع‏)‏، فهذا استثناء صحيح، وأن حركات العباد لا تكون إلا عن مشيئة الله وإرادته، وكذلك قوله‏:‏ ويقضى الله على لسان رسوله ما شاء، أى أن الإنسان لا يتكلم إلا بمشيئة الله المحرك للسانه، والمقلب لقلبه، وكذلك قوله‏:‏ ‏(‏إنا قافلون غدا إن شاء الله‏)‏‏.‏

فاستثنى فيما يستقبل من الأفعال، كما أمره الله برد الحول والقوة إليه فى قوله‏:‏ ‏(‏وَلا تَقُولَنَّ لِشَىْءٍ إِنِّى فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 23‏]‏‏.‏

باب قَوْلِهِ تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 171‏]‏

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ، كَتَبَ عِنْدَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ‏:‏ إِنَّ رَحْمَتِى سَبَقَتْ غَضَبِى‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن مَسْعُود، حَدَّثَنَا النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ‏:‏ ‏(‏أَنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِى بَطْنِ أُمِّهِ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ إلى قوله‏:‏ ‏(‏ثُمَّ يُبْعَثُ إِلَيْهِ الْمَلَكُ، فَيُؤْذَنُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث، ‏(‏فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى لا يَكُونُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ إِلا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، فَيَدْخُلُهَا‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏(‏يَا جِبْرِيلُ، مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَزُورَنَا، فَنَزَلَتْ‏:‏ ‏(‏وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 64‏]‏ الآيَةِ‏.‏

- وفيه‏:‏ كُنْتُ أَمْشِى مَعَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَمَرَّ بِنفر مِنَ الْيَهُودِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ لا تَسْأَلُوهُ، فَسَأَلُوهُ فَقَامَ مُتَوَكِّئًا عَلَى الْعَسِيبِ، وَأَنَا خَلْفَهُ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ‏(‏إلى‏)‏ قَلِيلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 85‏]‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏تَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ جَاهَدَ فِى سَبِيلِهِ لا يُخْرِجُهُ إِلا الْجِهَادُ فِى سَبِيلِهِ وَتَصْدِيقُ كَلِمَاتِهِ، بِأَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو مُوسَى، جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ‏:‏ الرَّجُلُ يُقَاتِلُ حَمِيَّةً، وَيُقَاتِلُ شَجَاعَةً، وَيُقَاتِلُ رِيَاءً، فَأَىُّ ذَلِكَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، قَالَ‏:‏ ‏(‏مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِىَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ الكلمة السابقة‏:‏ هى كلمة الله بالقضاء المتقدم منه قبل أن يخلق خلقه فى أم الكتاب؛ الذى جرى به القلم للمرسلين إنهم لهم المنصورون فى الدنيا والآخرة، وقد تقدم فى كتاب القدر، ومعنى هذا الباب إثبات الله متكلما وذا كلام، خلافًا لمن يقول من المعتزلة‏:‏ أنه غير متكلم فيما مضى، وكذلك هو فيما بقى‏.‏

وهذا كفر قد نص الله على إبطاله بقوله‏:‏ ‏(‏وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 171‏]‏ فى آيات أخر، وقد نص النبى صلى الله عليه وسلم على بيان هذا المعنى فى أحاديث هذا الباب، فقال‏:‏ ‏(‏كتب عنده فوق عرشه‏)‏، وقال‏:‏ ثم يبعث الله إليه الملك فيؤذن بأربع كلمات يوحيها الله إلى الملك، فيكتبها فى أم الكتاب، وقال‏:‏ فيسبق عليه الكتاب بالقضاء المتقدم فى سابق علمه، والكتاب يقتضي كلامًا مكتوبًا، ودل ذلك على أنه لم يزل عالمًا بما سيكون قبل كونه، خلافًا لمن يقول‏:‏ لا يعلم الأشياء قبل كونها، ووجه مشاكلة حديث ابن عباس للترجمة، هو أن الذى يتنزل به جبريل هو كلام الله ووحيه، وكذلك قوله فى حديث ابن مسعود‏)‏ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 85‏]‏ يريد أن الروح خلق من خلقه تعالى، خلقه بقوله‏:‏ كن وكن‏:‏ كلامه الذى هو أمره الذى لم يزل ولا يزال‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 85‏]‏ فيه دليل على أنه لا تبلغ حقيقة العلم بالمخلوقات فضلا عن العلم بالخالق سبحانه، وأن من العلم ما يلزم التسليم فيه لله تعالى ويجب الإيمان بمشكله، وأن الراسخين فى العلم لا يعلمون تأويل المتشابه كما يزعم المتكلمون، إذ قد أعلمنا الله أن السؤال عن الروح ابتغاء ما لم يؤته من العلم، مع أنه وصف قلوب المتبعين ما تشابه منه بالزيغ وابتغاء الفتنة، ووصف الراسخين فى العلم بالإيمان به، وأن كله من عند ربهم، مستعيذين من الزيغ الذى وسم الله به من اتبع تأويل المتشابه منه، داعين إلى الله لا يزيغ قلوبهم بابتغاء تأويله، بعد إذ هداهم إلى الإيمان به‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏(‏كتب عنده‏:‏ إن رحمتى سبقت غضبى‏)‏ فهو والله أعلم كتابه فى أم الكتاب الذى قضى به وخطه القلم، فكان من رحمته تلك أن ابتدأ خلقه بالنعمة بإخراجهم من العدم إلى الوجود، وبسط لهم من رحمته فى قلوب الأبوين على الأبناء، من الصبر على تربيتهم، ومباشرة أقذارهم ما إذا تدبره متدبر أيقن أن ذلك من رحمته تعالى، ومن رحمته السابقة أنه يرزق الكفار وينعمهم، ويدفع عنهم الآلام ثم ربما أدخلهم الإسلام رحمة منه لهم، وقد بلغوا من التمرد عليه والخلع لربوبيته غايات تغضبه، فتغلب رحمته ويدخلهم جنته، ومن لم يتب عليه حتى توفاه فقد رحمه مدة عمره بتراخى عقوبته عنه، وقد كان له ألا يمهله بالعقوبة ساعة كفره به ومعصيته له، لكنه أمهله رحمةً له، ومع هذا فإن رحمة الله السابقة أكثر من أن يحيط بها الوصف‏.‏

باب قَوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّى‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏مَدَدًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 109‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّ مَا فِى الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 27‏]‏

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏تَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ جَاهَدَ فِى سَبِيلِهِ لا يُخْرِجُهُ مِنْ بَيْتِهِ إِلا الْجِهَادُ فِى سَبِيلِهِ، وَتَصْدِيقُ كَلِمَتِهِ، أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ‏)‏‏.‏

قال مجاهد‏:‏ ‏(‏قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا ‏(‏للقلم يستمد منه للكتاب‏)‏ لِّكَلِمَاتِ رَبِّى‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 109‏]‏، أى لعلم ربى‏.‏

وقال قتادة‏:‏ لنفد ماء البحر قبل أن ينفد كلام ربى وحكمه‏.‏

ومعنى هذا الباب إثبات الكلام لله صفةً لذاته، وأنه لم يزل متكلمًا ولا يزال، كمعنى الباب الذى قبله، وإن كان قد وصف كلامه تعالى بأنه كلمات فإنه شىء واحد لا يتجزأ ولا يقسم، وكذلك يعبر عنه بعبارات مختلفة‏:‏ تارةً عربيةً، وتارةً سريانيةً، وبجميع الألسنة التى أنزلها الله على أنبيائه، وجعلها عبارةً عن كلامه القديم الذى لا يشبه كلام المخلوقين، ولو كانت كلماته مخلوقة لنفدت كما تنفد البحار والأشجار وجميع المحدثات، فكما لا يحاط بوصفه تعالى، كذلك لا يحاط بكلماته وجميع صفاته‏.‏

باب قَوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ‏}‏ الآية

‏{‏قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 23‏]‏ وَلَمْ يَقُلْ مَاذَا خَلَقَ رَبُّكُمْ وَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ‏:‏ ‏(‏مَنْ ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏‏.‏

وَقَالَ مَسْرُوقٌ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ‏:‏ إِذَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِالْوَحْىِ، سَمِعَ أَهْلُ السَّمَوَاتِ شَيْئًا، فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ، وَسَكَنَ الصَّوْتُ عَرَفُوا أَنَّهُ الْحَقُّ، وَنَادَوْا‏:‏ ‏(‏مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 23‏]‏‏.‏

وَيُذْكَرُ عَنْ جَابِرٍ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ، سَمِعْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ‏:‏ ‏(‏يَحْشُرُ اللَّهُ الْعِبَادَ، فَيُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ‏:‏ أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الدَّيَّانُ‏)‏‏.‏

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، يَبْلُغُ بِهِ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِذَا قَضَى اللَّهُ الأمْرَ فِى السَّمَاءِ، ضَرَبَتِ الْمَلائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا، لِقَوْلِهِ‏:‏ كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ‏)‏‏.‏

- قال على بن المدينى، وَقَالَ غَيْرُهُ‏:‏ صَفْوَانٍ يَنْفُذُهُمْ ذَلِكَ، فَإِذَا‏)‏ فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 23‏]‏‏.‏

وقال عكرمة مرةً عن أبى هريرة يرفعه‏:‏ أنه قرأ‏:‏ فُزِّغَ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَىْءٍ مَا أَذِنَ لِلنَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو سَعِيد، قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يَقُولُ اللَّهُ‏:‏ يَا آدَمُ، فَيَقُولُ‏:‏ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، فَيُنَادَى بِصَوْتٍ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُخْرِجَ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ بَعْثًا إِلَى النَّارِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عَائِشَةَ، مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ، وَلَقَدْ أَمَرَهُ رَبُّهُ أَنْ يُبَشِّرَهَا بِبَيْتٍ فِى الْجَنَّةِ‏.‏

قال المهلب‏:‏ استدل البخارى بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 23‏]‏‏.‏

ولم يقل‏:‏ ماذا خلق ربكم‏.‏

على أن قوله تعالى قائم بذاته، صفة من صفاته، لم يزل موجودًا ولا يزال، وأنه لا يشبه كلام المخلوقين، وليس بذى حروف، خلافًا للمعتزلة التى نفت كلام الله تعالى، وقالت‏:‏ إن كلامه كناية عن الفعل والتكوين، قالوا‏:‏ وهذا سائغ فى كلام العرب، ألا ترى أن الرجل يعبر عن حركته بيده فيقول‏:‏ قلت بيدى هكذا، وهم يريدون حركت يدى، ويحتجون بأنه كلام لا يعقل منا إلا بأعضاء ولسان، والباري تعالى لا يجوز أن يكون له أعضاء وآلات الكلام؛ إذ ليس بجسم‏.‏

فرد البخارى عليهم بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا قضى الله الأمر فى السماء، فزعت الملائكة وضربت بأجنحتها فكان لها صوت، كأنه سلسلة على صفوان خضعانًا‏)‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 23‏]‏، أى أذهب الفزع عن قلوبهم، قالوا للذى فوقهم‏:‏ ماذا قال ربكم‏؟‏ فدل ذلك على أنهم سمعوا قولا لم يفهموا معناه من أجل فزعهم، فقالوا‏:‏ ماذا قال ربكم‏؟‏ ولم يقولوا‏:‏ ماذا خلق ربكم، وأكد ذلك بما حكاه عن الملائكة أيضًا‏؟‏‏)‏ قَالُوا الْحَقَّ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 23‏]‏، والحق إحدى صفتى القول الذى لا يجوز على الله غيره؛ لأنه لا يجوز على كلامه الباطل‏.‏

ولو كان القول منه خلقًا وفعلا لقالوا حين سألوا ماذا قال، أخلق خلقًا كذا، إنسانًا، أو جبلا، أو شيئًا من المخلوقات، فلما وصفوا قوله بما يوصف به الكلام من الحق، لم يجز أن يكون القول بمعنى الخلق والتكوين، وكذلك قوله لآدم‏:‏ يا آدم، وهو كلام مسموع، ولو كان بمعنى الخلق والتكوين ما أجاب بلبيك وسعديك، التى هى جواب المسموعات، وكذلك قول عائشة‏:‏ ‏(‏ولقد أمره ربه أن يبشرها‏)‏ هو كلام، وقول مسموع من الله تعالى ولو كان خلقًا لما فهم منه عن ربه له بالبشرى‏.‏

باب كَلامِ الرَّبِّ مَعَ جِبْرِيلَ وَنِدَاءِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَلائِكَةَ

وَقَالَ مَعْمَرٌ‏:‏ ‏(‏وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 6‏]‏ أَىْ يُلْقَى عَلَيْكَ، وَتَلَقَّاهُ أَنْتَ‏:‏ أَىْ تَأْخُذُهُ عَنْهُمْ، وَمِثْلُهُ‏:‏ ‏(‏فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 37‏]‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّ فُلانًا، فَأَحِبَّهُ فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِى جِبْرِيلُ فِى السَّمَاءِ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّ فُلانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، وَيُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِى أَهْلِ الأرْضِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلائِكَةٌ بِاللَّيْلِ، وَمَلائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِى صَلاةِ الْعَصْرِ وَصَلاةِ الْفَجْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ، فَيَسْأَلُهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ، كَيْفَ تَرَكْتُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو ذَرّ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أَتَانِى جِبْرِيلُ، فَبَشَّرَنِى أَنَّهُ مَنْ مَاتَ لا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ، قُلْتُ‏:‏ وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى‏؟‏ قَالَ‏:‏ وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى‏)‏‏.‏

هذا باب كالباب الذى قبله فى إثبات كلام الله وإسماعه إياه جبريل والملائكة، فيسمعون عند ذلك الكلام القديم القائم بذاته الذى لا يشبه كلام المخلوقين، إذ ليس بحرف ولا تقطيع نغم وليس من شرطه أن يكون بلسان وشفتين وآلات، وحقيقته أن يكون مسموعًا مفهومًا، ولا يليق بالبارى تعالى أن يستعين فى كلامه بالجوارح والأدوات، فمن قال‏:‏ لم أشاهد كلامًا إلا بأدوات، لزمه التشبيه؛ إذ حكم على الله بحكم المخلوقين، وخالف قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏‏.‏

باب قَوْلِ اللَّهِ تعالى‏:‏ ‏{‏أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 166‏]‏

قَالَ مُجَاهِدٌ‏:‏ ‏(‏يَتَنَزَّلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 12‏]‏ بَيْنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَالأرْضِ السَّابِعَةِ‏.‏

- فيه‏:‏ الْبَرَاء، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يَا فُلانُ إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ، فَقُلِ‏:‏ اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ نَفْسِى إِلَيْكَ‏.‏‏.‏‏.‏

إلى قوله‏:‏ ‏(‏آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِى أَنْزَلْتَ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن أَبِى أَوْفَى، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يَوْمَ الأحْزَابِ‏:‏ اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ‏:‏ سَرِيعَ الْحِسَابِ، اهْزِمِ الأحْزَابَ، وَزَلْزِلْ بِهِمْ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن عَبَّاس،‏)‏ وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 110‏]‏ أُنْزِلَتْ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُتَوَارٍ بِمَكَّةَ، وَكَانَ إِذَا رَفَعَ صَوْتَهُ، سَمِعَه الْمُشْرِكُونَ، فَسَبُّوا الْقُرْآنَ، وَمَنْ أَنْزَلَهُ وَمَنْ جَاءَ بِهِ، فَقَالَ تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ ‏(‏يَسْمَعَ الْمُشْرِكُونَ،‏)‏ وَلا تُخَافِتْ بِهَا ‏(‏عَنْ أَصْحَابِكَ، فَلا تُسْمِعُهُمْ،‏)‏ وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا ‏(‏أَسْمِعْهُمْ، وَلا تَجْهَرْ حَتَّى يَأْخُذُوا عَنْكَ الْقُرْآنَ‏.‏

ولا تعلق للقدرية فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 166‏]‏ أن القرآن مخلوق؛ لأن كلامه قديم قائم بذاته، ولا يجوز أن تكون صفة ذات القديم إلا قديمة، فالمراد بالإنزال إفهام عباده المكلفين معانى كتابه وفرائضه التى افترضها عليهم، وليس إنزاله كإنزال الأجسام المخلوقة التى يجوز عليها الحركة والانتقال من مكان إلى مكان؛ لأن القرآن ليس بجسم ولا مخلوق، والأفعال التى يعبر بها عن الأجسام كالحركة والانتقال من الأمكنة تستحيل على الله وعلى كلامه وجميع صفاته‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفى حديث البراء الرد على القدرية الذين يزعمون أن لهم قدرة على الخير والشر استحقوا عليها الثواب والعقاب لأمر النبى صلى الله عليه وسلم من آوى إلى فراشه بالتبرؤ عند نومه من الحول والقوة والاستسلام لقدرة الله التى إليه بها النوم، فلم يستطع دفعه، فلو كان يملك لنفسه نفعًا أو ضرًا لدفع عن نفسه النوم الذى هو موت إن أمسك الله نفسه فيه مات أبدًا، وإن أرسلها بعد موته ساعة أو ساعات جدد لها حياة‏.‏

وكيف يملك الإنسان لنفسه قدرة، وقد أمره نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتبرأ من جميع وجوهها فى هذا الحديث، ثم عرفك أن هذه الفطرة التى فطر الله الناس عليها يجب أن تكون آخر ما يقوله المرء الذى حضره أول الموت فيموت على الفطرة التى عليها خلقه، وإن أحياه أصاب بتبرئه إليه خيرًا يريد أجرًا فى الآخرة وخيرًا من رزق وكفاية وحفظ فى الدنيا‏.‏

وفى حديث ابن أبى أوفى جواز الدعاء بالسجع، إذا لم يكن متكلفًا مصنوعًا تفكره، وشغل بال بتهيئته فيضعف بذلك نية الداعى فلذلك كره السجع فى الدعاء، وأما إذا تكلم به طبعًا فهو حسن وقد أشرنا إلى هذا المعنى فى كتاب الدعاء‏.‏

وفى حديث ابن عباس أن قطع الذرائع التى تنقص البارى تعالى وتنقص كتابه واجب وإن كان المراد بها الخير لمنعه من رفع الصوت بالقرآن لئلا يسمعه من يسبه ومن أنزله‏.‏

باب قوله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 15‏]‏

‏{‏إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ‏}‏ ‏[‏الطارق‏:‏ 13‏]‏ حَقٌّ ‏{‏وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ‏}‏ ‏[‏الطارق‏:‏ 14‏]‏ بِاللَّعِبِ‏.‏

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ يُؤْذِينِى ابْنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهْرَ، وَأَنَا الدَّهْرُ بِيَدِى الأمْرُ، أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ الصَّوْمُ لِى وَأَنَا أَجْزِى بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَأَكْلَهُ وَشُرْبَهُ مِنْ أَجْلِى‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏بَيْنَمَا أَيُّوبُ يَغْتَسِلُ عُرْيَانًا خَرَّ عَلَيْهِ رِجْلُ جَرَادٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَجَعَلَ يَحْثِى فِى ثَوْبِهِ، فَنَادَى رَبُّهُ‏:‏ يَا أَيُّوبُ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏قَالَ اللَّه تَعَالَى‏:‏ أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ‏:‏ ‏(‏هَذِهِ خَدِيجَةُ، أَتَتْكَ بِإِنَاءٍ فِيهِ طَعَامٌ، أَوْ شَرَابٌ، فَأَقْرِئْهَا مِنْ رَبِّهَا السَّلامَ، وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ مِنْ قَصَبٍ، لا صَخَبَ فِيهِ وَلا نَصَبَ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏قَالَ اللَّهُ‏:‏ أَعْدَدْتُ لِعِبَادِى الصَّالِحِينَ مَا لا عَيْنٌ رَأَتْ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، كَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا تَهَجَّدَ مِنَ اللَّيْلِ، قَالَ‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ، وَلَكَ أَنْتَ الْحَقُّ، وَقَوْلُكَ الْحَقُّ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏، الحديث‏.‏

- وفيه‏:‏ عَائِشَةَ، فِى حديث الإِفْكِ‏:‏ وَلَشَأْنِى فِى نَفْسِى كَانَ أَحْقَرَ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ فِىَّ بِأَمْرٍ يُتْلَى‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يَقُولُ اللَّهُ‏:‏ إِذَا أَرَادَ عَبْدِى أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً فَلا تَكْتُبُوهَا عَلَيْهِ حَتَّى يَعْمَلَهَا‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لَمَّا فَرَغَ اللَّه من الخلق قَامَتِ الرَّحِمُ، فَقَالَ‏:‏ مَهْ، قَالَتْ‏:‏ هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنَ الْقَطِيعَةِ، فَقَالَ‏:‏ أَلا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ‏:‏ قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ إِذَا أَحَبَّ عَبْدِى لِقَائِى أَحْبَبْتُ لِقَاءَهُ، وَإِذَا كَرِهَ لِقَائِى كَرِهْتُ لِقَاءَهُ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِى بِى‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَأَبُو سَعِيد، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏قَالَ رَجُلٌ لأهله، لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ، احرقونى، فَقَالَ لهُ‏:‏ لِمَ فَعَلْتَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ مِنْ خَشْيَتِكَ، فَغَفَرَ لَهُ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِنَّ عَبْدًا أَصَابَ ذَنْبًا، فَقَالَ‏:‏ رَبِّ أَذْنَبْتُ، فَقَالَ رَبُّهُ، جل ثناءه‏:‏ عَلِمَ عَبْدِى أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِهِ، غَفَرْتُ لِعَبْدِى‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

قال المهلب‏:‏ غرضه فى هذا الباب كغرضه فى الأبواب التى قبله، ومعنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلاَمَ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 15‏]‏، هو أن المنافقين تخلفوا عن الخروج مع النبى صلى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك، واعتذروا فأعلم الله إفكهم فيه، فأمر الله رسوله أن يقرأ عليهم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَقُل لَّن تَخْرُجُوا مَعِىَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُوا مَعِىَ عَدُوًّا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 83‏]‏ فأعلمهم بذلك وقطع أطماعهم من الخروج معه‏.‏

فلما رأوا الفتوحات قد تهيأت للنبى صلى الله عليه وسلم أرادوا الخروج معه رغبة منهم فى المغانم، فأنزل الله على‏:‏ ‏(‏سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلاَمَ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 15‏]‏، أى أمره لرسوله بأن لا يخرجوا معه بأن يخرجوا معه‏.‏

فقطع الله أطماعهم من ذلك مدة أيامه صلى الله عليه وسلم؛ لقوله‏:‏ ‏(‏لَّن تَخْرُجُوا مَعِىَ أَبَدًا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 83‏]‏، ثم قال آمرًا لرسوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏قل للمخلفين من الأعراب ‏(‏يعنى‏:‏ المريدين تبديل كلام الله‏:‏ ‏(‏سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 16‏]‏، يعنى توليتم عن إجابته صلى الله عليه وسلم حين دعاهم إلى الخروج معه فى سورة براءة‏)‏ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 16‏]‏، والداعى لهم غيره صلى الله عليه وسلم ممن يقوم بأمره من خلفائه، فقيل‏:‏ الداعى لهم بعده أبو بكر دعاهم لقتال أهل الردة، وقيل‏:‏ الداعى عمر، دعاهم لقتال المشركين‏.‏

وسائر الأحاديث فيها إثبات كلامه، وقد مر القول على أنه صفة قائمة به لا يصح مفارقتها له، وأنه لم يزل متكلمًا، ولا يزال كذلك‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏(‏يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر‏)‏ قد تقدم فى باب قوله‏:‏ ‏(‏إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 58‏]‏، أن الأذى لا يلحق بالله، وإنما يلحق من تتعاقب عليه الحوادث، ويلحقه العجز والتقصير عن الانتصار، والله تعالى منزه عن ذلك، فوجب أن يرجع الأذى المضاف إليه تعالى إلى أنبيائه ورسله، والمعنى يؤذى ابن آدم أنبيائى ورسلى بسب الدهر؛ لأن ذلك ذريعة إلى سب خالق الدهر، ومصرف أقضيته وحوادثه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏وأنا الدهر‏)‏ أى‏:‏ أفعل ما يجرى به الدهر من السراء والضراء، ألا ترى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بيدى الأمر أقلب الليل والنهار‏)‏ فالأيام والليالى ظروف للحوادث، فإذا سببتم الدهر وهو لا يفعل شيئًا فقد وقع السب على الله‏.‏

وقد بينت هذا الحديث بأكثر من هذا فى كتاب الأدب فى باب‏:‏ لا تسبوا الدهر‏.‏

قال المهلب‏:‏ وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أعددت لعبادى الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر‏)‏ فهو كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 8‏]‏ مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا توهمه قلب بشر‏.‏

هو على الحقيقة ما لا يعلمه بشر ممن له الأذن والقلب والبصر، فتخصيصه قلب بشر بأن لا يعلمه، يدل والله أعلم أنه يجوز أن يخطر على قلوب الملائكة، ألا ترى أنه إذا أفردنا بالمخاطبة بقوله‏:‏ ‏(‏وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ‏(‏فدل على جواز أن يعلمه غيرنا‏.‏

وقوله فى حديث أبى هريرة‏:‏ ‏(‏لما فرغ الله من الخلق قامت الرحم فقالت‏:‏ هذا مقام العائذ بك من القطيعة‏.‏

فقال تعالى‏:‏ ألا ترضين‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

فلا تعلق فيه لمن يقول‏:‏ بحدث كلامه تعالى من أجل أن الفاء فى قوله فقال‏:‏ توجب فى الظاهر كون قوله تعالى عقيب قول الرحم، وذلك مقتضٍ للحدث لقيام الدليل على أن الله لم يزل قائلا متكلمًا قبل أن يخلق خلقه بما لا أول له من الأزمان، وإذا كان ذلك كذلك وجب حمل قوله تعالى على معنى إفهامه تعالى إياها معنى كلامه الذى لم يزل به متكلمًا وقائلاً، وعلى هذا المعنى يحمل نحو هذا اللفظ إذا أتى فى الحديث‏.‏

وقد يحتمل أن يكون يأمر ملكًا من ملائكته بأن يقول للرحم هذا القول عنه تعالى، وأضاف إليه، إذ كان قول الملك عن أمره تعالى له، ويدل على صحة هذا التأويل رواية من روى فى حديث الشفاعة‏:‏ ‏(‏فأستأذن على ربى وأخر له ساجدًا فيقال‏:‏ يا محمد، ارفع رأسك‏.‏‏.‏‏)‏ بترك إسناد القول إلى الله تعالى جاءت هذه الرواية فى الباب بعد هذا‏.‏

وقوله للرحم‏:‏ مه، فمعنى مه فى لسان العرب‏:‏ الزجر والردع‏.‏

فمحال توجه ذلك إلى الله، فوجب توجهه إلى من عاذت الرحم بالله تعالى من قطعه إياها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏أنا عند ظن عبدى بى‏)‏ لا يتوجه إلا إلى المؤمنين خاصة أى‏:‏ أنا عند ظن عبدى المؤمن بى، وفى القرآن آيات تشهد أن عباده المؤمنين وإن أسرفوا على أنفسهم أنه عند ظنهم به من المغفرة والرحمة، وإن أبطأت حينًا وتراخت وقتًا لإنفاذ ما حتم به، على من سبق عليه إنفاذ الوعيد تحلة القسم؛ لأنه قد كان له أن يعذب واحد أبدًا كإبليس، فهو عند ظن عبده، وإن عاقبه برهة فإن كان ظنه به ألا يعذبه برهة، ولا تحلة فإنه كذلك يجده كما ظن إن شاء الله فهو أهل التقوى وأهل المغفرة‏.‏

وأما حديث الذى لم يعمل خيرًا قط، ففيه دليل على أن الإنسان لا يدخل الجنة بعمله ما لم يتغمده الله برحمته كما قال صلى الله عليه وسلم‏.‏

وفيه أن الإنسان يدخل الجنة بحسن نيته فى وصيته لقوله‏:‏ خشيتك يا رب‏.‏

وفيه أن من جهل بعض الصفات فليس بكافر خلافًا لبعض المتكلمين؛ لأن الجهل بها هو العلم؛ إذ لا تبلغ كنه صفاته تعالى، فالجاهل بها هو المؤمن حقيقة ولهذا قال بعض السلف‏:‏ عليكم بدين العذارى، أفترى العذارى يعلمن حقيقة صفات الله تعالى‏.‏

وللأشعرى فى تأويل هذا الحديث قولان‏:‏ كان قوله الأول‏:‏ من جهل القدرة أو صفة من صفات الله تعالى فليس بمؤمن‏.‏

وقوله فى هذا الحديث‏:‏ ‏(‏لئن قدر الله على‏)‏ لا يرجع إلى القدرة وإنما يرجع إلى معنى التقدير الذى هو بمعنى التضييق كما قال تعالى فى قصة يونس‏:‏ ‏(‏فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 87‏]‏، أى لن نضيق عليه، ثم رجع عن هذا القول وقال‏:‏ لا يخرج المؤمن من الإيمان بجهله بصفة من صفات الله تعالى قدرة كانت أو سائر صفات ذاته تعالى إذا لم يعتقد فى ذلك اعتقادًا يقطع أنه الصواب والدين المشروع، ألا ترى أن الرجل قال‏:‏ لئن قدر الله عليه ليعذبنه فأخرج ذلك مخرج الظن دون القطع على أنه تعالى غير قادر على جمعه وإحيائه إخراج خائف من عذاب ربه ذاهل العقل‏.‏

يدل على ذلك قوله مجيبًا لربه لما قال له‏:‏ لم فعلت‏؟‏ قال‏:‏ من خشيتك‏.‏

وأنت أعلم‏.‏

فأخبر بالعلة التى لها فعل ما فعل، ويدل على صحة هذا القول من روى قوله‏:‏ لعلى أضل الله‏.‏

و ‏(‏لعل‏)‏ فى كلام العرب موضوعة لتوقع مخوف لا يقطع على كونه، ولا على انتفائه، ومعنى قوله‏:‏ لعلى أضل على الله وحذف حرف الجر، وذلك مشهور فى اللغة كما قال الشاعر‏:‏

استغفر الله ذنبًا ***

والمعنى من ذنب‏.‏

ومن كان خائفًا عند حضور أجله فجدير أن تختلف أحواله لفرط خوفه، وينطق بما لا يعتقد، ومن كان هكذا فغير جائز إخراجه من الإيمان الثابت له؛ إذ لم يعتقد ما قاله دينًا وشرعًا، وإنما يكفر من اعتقده تعالى على خلاف ما هو به، وقطع على أن ذلك هو الحق، ولو كفر من جهل بعض صفات الله لكفر عامة الناس؛ إذ لا يكاد نجد منهم من يعلم أحكام صفات ذاته، ولو اعترضت جميع العامة وكثيرًا من الخاصة وسألتهم‏:‏ هل لله تعالى قدرة أو علم أو سمع أو بصر أو إرادة، وهل قدرته متعلقة بجميع ما يصح كونه معلومًا لما عرفوا حقيقة ذلك‏؟‏ فلو حكم بالكفر على من جهل صفة من صفات الله تعالى لوجب الحكم به على جميع العامة، وأكثر الخاصة وهذا محال‏.‏

والدليل على صحة قولنا حديث السوداء، وأن الرسول قال لها‏:‏ ‏(‏أين الله‏؟‏‏)‏ فقالت‏:‏ فى السماء‏.‏

فقال‏:‏ من أنا‏؟‏ فقالت‏:‏ أنت رسول الله‏.‏

فقال‏:‏ أعتقها؛ فإنها مؤمنة‏)‏‏.‏

فحكم لها بالإيمان، ولم يسألها عن صفات الله وأسمائه، ولو كان علم ذلك شرطًا فى الإيمان لسألها عنه كما سألها عن أنه رسول الله، وكذلك سؤال أصحاب رسول الله، عمر بن الخطاب وغيره، رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القدر، فقالوا‏:‏ يا رسول الله، أرأيت ما نعمل لأمر مستأنف أم لأمر قد سبق‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏بل لأمر قد سبق، قال‏:‏ ففيم يعمل العاملون‏؟‏ قال‏:‏ اعملوا، فكل ميسر لما خلق له‏)‏ وأعلمهم أن ما أخطأهم لم يكن ليصيبهم، ومعلوم أنهم كانوا قبل سؤاله مؤمنين، ولا يسع مسلمًا أن يقول غير ذلك فيهم، ولو كان لا يسعهم جهل القدرة وقدم العلم لعلمهم ذلك مع شهادة التوحيد، ولجعله عمودًا سادسًا للإسلام، وهذا بين‏.‏

وأما حديث أبى هريرة فى الرجل الذى واقع الذنب مرة بعد مرة ثم استغفر ربه فغفر له، ففيه دليل على أن المصر فى مشيئة الله تعالى إن شاء عذبه وإن شاء غفر له مغلبًا لخشيته التى جاء بها وهى اعتقاده، وأن له ربا خالقا يعذبه ويغفر له واستغفاره إياه على ذلك، يدل على ذلك قوله‏:‏ ‏(‏مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 160‏]‏، ولا حسنة أعظم من توحيد الله والإقرار بوجوده والتضرع إليه فى المغفرة‏.‏

فإن قيل‏:‏ فإن استغفاره ربه توبة منه، ولم يكن مصرًا قيل له‏:‏ ليس الاستغفار أكثر من طلب غفرانه، وقد يطلب الغفران المصر والنائب، ولا دليل فى الحديث على أنه قد كان تاب مما سأل الغفرأن منه؛ لأن التوبة الرجوع من الذنب والعزم، على ألا يعود إلى مثله والاستغفار لا يفهم منه ذلك، وبالله والتوفيق‏.‏

باب كَلامِ الرَّبِّ تَعَالَى مَعَ الأنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ

- فيه‏:‏ أَنَس، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، شُفِّعْتُ، فَقُلْتُ‏:‏ يَا رَبِّ، أَدْخِلِ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِى قَلْبِهِ خَرْدَلَةٌ، فَيَدْخُلُونَ، ثُمَّ أَقُولُ‏:‏ أَدْخِلِ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِى قَلْبِهِ أَدْنَى شَىْءٍ‏.‏

- وَقَالَ أَنَس مرة عن النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَمَاجَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ فِى بَعْضٍ، فَيَأْتُونَ آدَمَ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ إلى قوله‏:‏ ‏(‏فَيَأْتُونِى، فَأَقُولُ‏:‏ أَنَا لَهَا، فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّى، فَيُؤْذَنُ لِى، وَيُلْهِمُنِى مَحَامِدَ أَحْمَدُهُ بِهَا، لا تَحْضُرُنِى الآنَ، فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ، وَأَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيَقُولُ‏:‏ يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ‏:‏ يُسْمَعْ لَكَ، وَسَلْ تُعْطَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ‏:‏ يَا رَبِّ، أُمَّتِى، أُمَّتِى، فَيَقُولُ‏:‏ انْطَلِقْ، فَأَخْرِجْ مِنْهَا مَنْ كَانَ فِى قَلْبِهِ مِثْقَالُ شَعِيرَةٍ مِنْ إِيمَانٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ وذكر الحديث إلى قوله‏:‏ ‏(‏أَدْنَى مِثْقَالِ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ‏)‏، إلى قوله‏:‏ ‏(‏فَمَرَرْنَا بِالْحَسَنِ، وَهُوَ مُتَوَارٍ فِى مَنْزِلِ أَبِى خَلِيفَةَ، فَقُلْنَا‏:‏ يَا أَبَا سَعِيدٍ، جِئْنَاكَ مِنْ عِنْدِ أَخِيكَ أَنَسِ ابْنِ مَالِكٍ، فَلَمْ نَرَ مِثْلَ مَا حَدَّثَنَا فِى الشَّفَاعَةِ، قَالَ‏:‏ هِيهْ، فَحَدَّثْنَاهُ بِالْحَدِيثِ فَقَالَ‏:‏ لَقَدْ حَدَّثَا، وَهُوَ جَمِيعٌ مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً أَنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏(‏ثُمَّ أَعُودُ الرَّابِعَةَ، فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ إلى قوله‏:‏ ‏(‏فَيَقُولُ وَعِزَّتِى وَجَلالِى وَكِبْرِيَائِى وَعَظَمَتِى لأخْرِجَنَّ مِنْهَا مَنْ قَالَ‏:‏ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عَبْدِاللَّهِ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِنَّ آخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولا الْجَنَّةَ وَآخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنَ النَّارِ، رَجُلٌ يَخْرُجُ حَبْوًا، فَيَقُولُ لَهُ رَبُّهُ‏:‏ ادْخُلِ الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ‏:‏ رَبِّ، الْجَنَّةُ مَلأى، فَيَقُولُ لَهُ ذَلِكَ ثَلاثًا، كُلُّ ذَلِكَ يُعِيدُ عَلَيْهِ‏:‏ الْجَنَّةُ مَلأى، فَيَقُولُ‏:‏ إِنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا عَشْرَ مِرَات‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عَدِىِّ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَا مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عَبْدِاللَّهِ، جَاءَ حَبْرٌ مِنَ الْيَهُودِ، إلى النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّهُ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، جَعَلَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث ‏(‏ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ، ثُمَّ يَقُولُ‏:‏ أَنَا الْمَلِكُ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، سَأَلَه رجُل‏:‏ كَيْفَ سَمِعْتَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِى النَّجْوَى‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏يَدْنُو أَحَدُكُمْ مِنْ رَبِّهِ حَتَّى يَضَعَ كَنَفَهُ عَلَيْهِ، فَيَقُولُ‏:‏ عَمِلْتَ كَذَا وَكَذَا‏؟‏ فَيُقَرِّرُهُ، فَيَقُولُ‏:‏ نَعَمْ، ثُمَّ يَقُولُ‏:‏ إِنِّى سَتَرْتُ عَلَيْكَ فِى الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ قد تقدم إثبات كلام الله مع الملائكة المشاهدة له وأثبت فى هذا الباب كلامه تعالى مع النبيين يوم القيامة بخلاف ما حرمهم إياه فى الدنيا بحجابه الأبصار عن رؤيته فيها، فيرفع فى الآخرة ذلك الحجاب عن أبصارهم، ويكلمهم على حال المشاهدة كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ليس بينه وبينهم ترجمان‏)‏ وجميع أحاديث الباب فيها كلام الله مع عباده، ففى حديث الشفاعة قوله تعالى لمحمد‏:‏ ‏(‏أخرج من النار من فى قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان‏)‏ إلى قوله‏:‏ ‏(‏وعزتى وجلالى وكبريائى لأخرجن منها من قال‏:‏ لا إله إلا الله‏)‏ فهذا كلامه للنبى صلى الله عليه وسلم بدليل قوله‏:‏ ‏(‏فأستأذن على ربى‏)‏ وفى بعض طرق الحديث ‏(‏فإذا رأيته أخر له ساجدًا‏)‏ وكذلك قوله فى حديث آخر من يدخل الجنة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ادخل الجنة‏.‏

فيقول‏:‏ رب الجنة ملأى‏)‏ إلى قوله‏:‏ ‏(‏لك مثل الدنيا عشر مرات‏)‏ فأثبت بذلك كلامه تعالى مع غير الأنبياء مشافهة، ونظرهم إليه، وكذلك حديث النجوى‏:‏ يدنيه الله فى رحمته وكرامته ويقول‏:‏ سترتها عليك فى الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم على الانفراد عن الناس‏.‏

وقد تقصيت الكلام فى النجوى فى باب‏:‏ ستر المؤمن على نفسه فى كتاب الأدب فى موضعه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏هيه‏)‏‏:‏ هى كلمة استزادة للكلام‏.‏

عن صاحب العين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏ثم يهزهن‏)‏‏.‏

قال صاحب العين‏:‏ الهزهزة‏:‏ تحريك اليد‏.‏

باب قَوْل اللَّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 146‏]‏

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى، قَالَ مُوسَى‏:‏ أَنْتَ آدَمُ، الَّذِى أَخْرَجْتَ ذُرِّيَّتَكَ مِنَ الْجَنَّةِ، قَالَ‏:‏ أَنْتَ مُوسَى الَّذِى اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالاتِهِ وَكَلامِهِ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام‏:‏ ‏(‏يُجْمَعُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُونَ‏:‏ لَوِ اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبِّنَا، فَيُرِيحُنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَس، قَالَ‏:‏ لَيْلَةَ أُسْرِىَ بِالنَّبِىّ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَسْجِدِ الْكَعْبَةِ، جَاءَهُ ثَلاثَةُ نَفَرٍ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ، وَهُوَ نَائِمٌ فِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَقَالَ أَوَّلُهُمْ‏:‏ أَيُّهُمْ هُوَ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ أَوْسَطُهُمْ هُوَ خَيْرُهُمْ، فَقَالَ آخِرُهُمْ‏:‏ خُذُوا خَيْرَهُمْ، فَكَانَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَلَمْ يَرَهُمْ حَتَّى أَتَوْهُ لَيْلَةً أُخْرَى، فِيمَا يَرَى قَلْبُهُ، وَتَنَامُ عَيْنُهُ وَلا يَنَامُ قَلْبُهُ، وَكَذَلِكَ الأنْبِيَاءُ، عليهم السَّلام، تَنَامُ أَعْيُنُهُمْ وَلا تَنَامُ قُلُوبُهُمْ، فَلَمْ يُكَلِّمُوهُ حَتَّى احْتَمَلُوهُ، فَوَضَعُوهُ عِنْدَ بِئْرِ زَمْزَمَ فَتَوَلاهُ مِنْهُمْ جِبْرِيلُ، فَشَقَّ جِبْرِيلُ مَا بَيْنَ نَحْرِهِ إِلَى لَبَّتِهِ حَتَّى فَرَغَ مِنْ صَدْرِهِ وَجَوْفِهِ، فَغَسَلَهُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ بِيَدِهِ حَتَّى أَنْقَى جَوْفَهُ، ثُمَّ أُتِىَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ فِيهِ تَوْرٌ مِنْ ذَهَبٍ مَحْشُوًّا َحِكْمَةً وَإِيمَانًا فَحَشَا بِهِ صَدْرَهُ وَلَغَادِيدَهُ، يَعْنِى عُرُوقَ حَلْقِهِ، ثُمَّ أَطْبَقَهُ، ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ، فَضَرَبَ بَابًا مِنْ أَبْوَابِهَا، فَنَادَاهُ أَهْلُ السَّمَاءِ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏، فذكر حديث المعراج‏:‏ ‏(‏فذكر فِى السَّمَاءِ الدُّنْيَا آدَمَ، وَإِدْرِيسَ فِى الثَّانِيَةِ، وَهَارُونَ فِى الرَّابِعَةِ، وَآخَرَ فِى لَمْ أَحْفَظِ اسْمَهُ، وَإِبْرَاهِيمَ فِى السَّادِسَةِ، وَمُوسَى فِى السَّابِعَةِ، بِتَفْضِيلِ كَلامِ اللَّهِ، فَقَالَ مُوسَى‏:‏ رَبِّ لَمْ أَظُنَّ أَنْ يُرْفَعَ عَلَىَّ أَحَدٌ، ثُمَّ عَلا بِهِ فَوْقَ ذَلِكَ بِمَا لا يَعْلَمُهُ إِلا اللَّهُ حَتَّى جَاءَ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى، وَدَنَا لِلْجَبَّارِ رَبِّ الْعِزَّةِ، فَتَدَلَّى حَتَّى كَانَ مِنْهُ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى، فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ خَمْسِينَ صَلاةً، فَقَالَ لهُ مُوسَى‏:‏ ارْجِعْ ربك‏.‏

فراجع ربه حَتَّى خفف عنه إلى خَمْسِ صَلَوَاتٍ، فَقَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ يَا مُوسَى، قَدْ وَاللَّهِ اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّى مِمَّا اخْتَلَفْتُ إِلَيْهِ، قَالَ‏:‏ فَاهْبِطْ بِاسْمِ اللَّهِ، قَالَ‏:‏ وَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ فِى مَسْجِدِ الْحَرَامِ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ بوب البخارى لحديث أنس فى كتاب الأنبياء باب‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم تنام عينه ولا ينام قلبه‏.‏

وبوب له فى تفسير القرآن باب‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِى أَرَيْنَاكَ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 60‏]‏‏.‏

استدل البخارى على إثبات كلام الله، وإثباته متكلمًا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 164‏]‏، وأجمع أهل السنة على أن الله كلم موسى بلا واسطة ولا ترجمان، وأفهمه معانى كلامه، وأسمعه إياها؛ إذ الكلام مما يصح سماعه‏.‏

فإن قال قائل من المعتزلة أو غيرهم‏:‏ فإذا سمع موسى كلام الله بلا واسطة ولا ترجمان، فلا يخلو أن يكون من جنس الكلام المسموع المعهود فيما بيننا أو لا يكون من جنسه، فإن كان من جنسه فقد وجب أن يكون محدثًا ككلام المحدثين، وإن لم يكن من جنسه فكيف السبيل إلى إسماعه إياه وفهمه معانيه‏؟‏ فالجواب‏:‏ أنه لو لزم من حيث سمعه منه تعالى وفهم معانيه أن يكون كسائر كلام المحدثين قياسًا عليه للزم أن يكون بكونه فاعلا وقادرًا وعالمًا وحيًا ومريدًا، وسائر صفاته من جنس جميع الموصوفين بهذه الصفات فيما بيننا‏.‏

فإن قالوا‏:‏ نعم، خرجوا من التوحيد، وإن أبوه نقضوا دليلهم واعتمادهم على قياس الغائب على حكم الشاهد‏.‏

ثم يقال لهم‏:‏ لو وجب أن يكون كلامه من جنس كلام المخلوقين من حيث اشترك كلامه تعالى وكلامهم فى إدراكهما بالأسماع لوجب إذا كان البارى تعالى موجودًا وشيئًا أن يكون من جنس الموجودات وسائر الأشياء المشاهدة لنا، فإن لم يجب هذا لم يجب ما عرضوا به، وقد ثبت أنه تعالى قادر على أن يعلمنا اضطرارًا كل شىء يصح أن يعلمناه استدلالاً ونظرًا، وإذا كان ذلك كذلك وجب أن يكون تعالى قادرًا على أن يعلم موسى معانى كلامه الذى لا يشبه كلام المخلوقين الخارج عن كونه حروفًا منظمة وأصواتًا مقطعة اضرارًا أو ينصب له دليلا إذا نظر فيه أدّاه إلى العلم بمعانى كلامه، فإذا كان قادرًا على الوجهين جميعًا زالت شبهة المعتزلة‏.‏

قال المهلب‏:‏ فى إفهام الله تعالى موسى من كلامه ما لا عهد له بمثله بتنوير قلبه له وشرحه له وشرحه لقبوله لا يخلو أن يكون ما أفهم الله سليمان من كلام الطير ومنطقها هو مثل كلام سليمان أو لا يشبه كلامه، فإن كان يشبه كلام سليمان ومن جنسه فلا وجه لاختصاص سليمان وداود بتعليمه دون بنى جنسه، ولا معنى لفخره صلى الله عليه وسلم بالخاصة وامتداحه بقوله‏:‏ ‏(‏عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 16‏]‏، أو يكون منطق الطير الذى فهمه سليمان غير منطق سليمان والطير وبنى جنسهن فقد أفهمه الله ما لم يفهمه غيره من كلام الهدهد وكلام النملة التى تبسم ضاحكًا من قولها لفهمه عنها ما لم يفهمه غيره منها‏.‏

وإنما ذكر حديث أبى هريرة فى حديث الشفاعة مختصرًا لما فى الحديث الطويل من قول إبراهيم ‏(‏ولكن ائتوا موسى عبدًا آتاه الله التوراة، وكلمه تكليمًا‏)‏ وكذلك فى حديث أنس فى الإسراء ‏(‏فوجد موسى فى السماء السابعة بتفضيل كلامه عز وجل‏)‏ وهذا يدل على أن الله تعالى لم يكلم من الأنبياء غير موسى عليه السلام بخلاف ما زعم الأشعريون، ذكروا عن ابن عباس وابن مسعود أن الله كلم محمدًا صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ ‏(‏فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 10‏]‏، وأنه رأى ربه تعالى، وقد دفعت هذا عائشة وأعظمت فرية من افترى فيه على الله تعالى‏.‏

وأما قول موسى إذ علا جبريل بمحمد‏:‏ ‏(‏يا رب، لم أظن أنك ترفع على أحدًا‏.‏

موسى أن الله لم يكلم أحدًا من البشر فى الدنيا غيره؛ إذ بذلك استحق أن يرفع إلى السماء السابعة، وفهم من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنِّى اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِى وَبِكَلاَمِى‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 144‏]‏ أنه أراد البشر كلهم‏.‏

ولم يعلم والله أعلم أن الله تعالى فضل محمدًا عليه بما أعطاه الله من الوسيلة والدعوة المقبولة منه شفاعة لأمته ولسائر الأنبياء من شدة موقفهم يوم الحشر حين أحجم الأنبياء عن الوسيلة إلى ربهم لشدة غضبه، وفضله بالإسعاف بالمقام المحمود الذى وعده فى كتابه، فبهذا رفع الله محمدًا على موسى‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏(‏فدنا الجبار رب العزة‏)‏ فهو دنو محبة ورحمة وفضيلة لا دنو مسافة ونقلة لاستحالة النقلة والحركة على البارى إذ لا يجوز أن تحويه الأمكنة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏حتى كان قاب قوسين أو أدنى‏)‏ فهو جبريل الذى تولى، فكان من الله أو من أمره على مقدار ذلك‏.‏

عن الحسن‏)‏ فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 10‏]‏، إلى جبريل ما أوحى، وكتب القلم وحتى سمع محمد صريفه فى كتابه، وبلغ جبريل محمدًا، وهو عند سدرة المنتهى، قيل‏:‏ إليها منتهى أرواح الشهداء‏)‏ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 11‏]‏‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ رأى محمد ربه بقلبه‏.‏

وعن ابن مسعود وعائشة‏:‏ رأى جبريل وهو قول قتادة‏.‏

وقال الحسن‏:‏ ما رأى من مقدور الله وملكوته‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 12‏]‏، هو محمد رأى جبريل صلى الله عليه وسلم فى صورته التى خلقه الله عليها له ستمائة جناح رفرفًا أخضر سد ما بين الخافقين، ولم يره قط فى صورته التى هو عليها إلا مرتين، وإنما كان يراه فى صورة كان يتشكل عليها من صور الآدميين وأكثرها صورة دحية الكلبى‏.‏

وفى قوله‏:‏ ‏(‏أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى ‏(‏دليل على أن العيان أكبر أسباب العلم فلا يتمارى فيه ولذلك قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ليس الخبر كالمعاينة‏)‏ ورأيت لبعض الناس فى لقاء النبى صلى الله عليه وسلم للأنبياء فى السموات دون عليين، والأنبياء مقرهم فى ساحة الجنة ورياضها تحت العرش، ومن دونهم من المقربين هناك فما وجه لقائه لآدم فى السماء الدنيا، ولإدريس فى السماء الثانية، وهارون فى الرابعة، وآخر فى الخامسة، وإبراهيم فى السادسة، وموسى فى السابعة‏؟‏ قال‏:‏ فوجهه أنهم تلقوه صلى الله عليه وسلم كما يتلقى القادم يسابق الناس إليه على قدر سرورهم بلقائه‏.‏

وقد روى عن أنس فى رتبة الأنبياء فى السموات خلاف حديث البخارى، روى ابن وهب، عن يعقوب بن عبد الرحمن الزهري، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن هاشم بن عتبة بن أبى وقاص، عن أنس بن مالك فذكر حديث الإسراء ‏(‏فوجد آدم فى السماء الدنيا، وفى السماء الثانية عيسى ويحيى بن زكريا ابنا الخالة، وفى الثالثة يوسف، وفى السماء الرابعة إدريس، وفى الخامسة هارون، وفى السادسة موسى، وفى السابعة إبراهيم‏)‏‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏(‏فاستيقظ وهو فى المسجد الحرام‏)‏ فإن أهل العلم اختلفوا فى صفة مسرى النبى، فقالت طائفة‏:‏ أسرى الله بجسده ونفسه، وروى ذلك عن ابن عباس والضحاك وسعيد بن جبير وقتادة، وإبراهيم ومسروق ومجاهد وعكرمة‏.‏

وقالت طائفة ممن قال‏:‏ أسرى بجسده أنه صلى بالأنبياء ببيت المقدس ثم عرج به إلى السماء فأوحى الله إليه، وفرض عليه الصلاة، ثم رجع إلى المسجد الحرام من ليلته فصلى به صلاة الصبح، روى ذلك الطبرى فى حديث الإسراء عن أنس‏:‏ ذكر من حديث أبي سعيد الخدرى أنه صلى صلى الله عليه وسلم فى بيت المقدس، ولم يذكر أنه صلى خلفه أحد، وقالت طائفة‏:‏ أسرى برسول الله بجسمه ونفسه غير أنه لم يدخل بيت المقدس، ولم يصل فيه، ولم ينزل عن البراق حتى رجع إلى مكة‏.‏

روى ذلك عن حذيفة قال فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 1‏]‏، قال‏:‏ لم يصل فيه النبي عليه السلام ، ولو صلى فيه لكتب عليكم الصلاة فيه كما كتب عليكم الصلاة عند الكعبة‏.‏

وقال آخرون‏:‏ أسرى بروحه ولم يسر بجسده، روى ذلك عن عائشة ومعاوية بن أبى سفيان والحسن البصري، وذكر ابن فورك عن الحسن قال‏:‏ عرج بروح النبي عليه السلام وجسده فى الأرض، وهو اختيار محمد بن إسحاق صاحب السير‏.‏

ومن حجة أهل المقالة الأولى ما روى عن ابن عباس فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 60‏]‏، قال‏:‏ هى رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسرى به إلى بيت المقدس، وليست رؤيا منام، رواه ابن عيينة، عن عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس قالوا‏:‏ ولو أسرى بروحه دون جسده، وكان الإسراء فى المنام لما أنكرت قريش ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم كانوا لا ينكرون الرؤيا‏؟‏ ولا ينكرون أحدًا يرى فى المنام ما على مسيرة سنة، فكيف ما هو على مسيرة شهر أو أقل‏.‏

ومن حجة الذين قالوا‏:‏ أسرى بروحه دون جسده قول أنس فى حديث الإسراء، قال حين أسرى به‏:‏ ‏(‏جاءه ثلاثة نفر وهو نائم فى المسجد الحرام‏.‏‏.‏‏)‏ وذكر الحديث إلى قوله‏:‏ ‏(‏حتى أتوه ليلة أخرى فيما يرى قلبه وتنام عينه ولا ينام قلبه، وكذلك الأنبياء عليهم السلام تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم‏)‏ فذكر النوم فى أول الحديث، وقال فى آخره‏:‏ ‏(‏فاستيقظ وهو فى المسجد الحرام‏)‏ وهذا بين لا إشكال فيه، وإلى هذا ذهب البخارى، ولذلك ترجم له فى كتاب الأنبياء وتفسير القرآن ما ذكرته فى صدر هذا الباب‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وأخبرنى بعض آل أبي بكر الصديق أن عائشة كانت تقول‏:‏ ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن أسرى بروحه‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثنى يعقوب بن عيينة بن المغيرة أن معاوية بن أبي سفيان كان إذا سئل عن مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ كانت رؤيا من الله صادقة‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فلم ينكر ذلك من قولهما لقول الحسن البصرى‏:‏ إن هذه الآية نزلت فى ذلك يعنى‏:‏ قول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِى أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 60‏]‏ ولقول الله عز وجل عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم إذ قال لابنه‏:‏ ‏(‏يَا بُنَىَّ إِنِّى أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنِّى أَذْبَحُكَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 102‏]‏، ثم مضى على ذلك فعرف أن الوحى من الله عز وجل يأتى الأنبياء أيقاظًا ونيامًا‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏تنام عينى، وقلبى يقظان‏)‏ فالله أعلم أى ذلك كان قد جاءه، وعاين فيه ما عاين من أمر الله تعالى على أى حاليه كان نائمًا أو يقظان كل ذلك حق وصدق‏.‏

وذكر ابن فورك فى مشكل القرآن قال‏:‏ كان النبى صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء فى بيت أم هانئ بنت أبى طالب‏.‏

فالله أعلم‏.‏

واحتج أهل هذه المقالة فقالوا‏:‏ ما اعتل به من قال‏:‏ إن الإسراء لو كان فى المنام لما أنكرته قريش؛ لأنهم كانوا لا ينكرون الرؤيا فلا حجة فيه؛ لأن قريشًا كانت تكذب العيان، وترد شهادة الله التى هى أكبر شهادة عليهم بذلك؛ إذ قال عنهم حين انشق القمر‏:‏ ‏(‏وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 2‏]‏، فأخبر عنهم أنهم يكذبون ما يرون عيانا، وكذلك قال عنهم‏:‏ ‏(‏وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاء فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 14، 15‏]‏، وقال تعالى عنهم أنهم قالوا‏:‏ ‏(‏لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 90‏]‏، إلى قوله‏:‏ ‏(‏أَوْ تَرْقَى فِى السَّمَاء‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 93‏]‏، ثم قالوا بعدما تمنوه‏:‏ ‏(‏وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 93‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَقْسَمُوا بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 109‏]‏، إلى قوله‏:‏ ‏)‏ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 109‏]‏ الآية، فأخبر تعالى أنه يكيد عقولهم وأبصارهم حتى ينكروا العيان القاطع للارتياب‏.‏

ومثله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَىْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 111‏]‏، وإنما كان إنكار قريش لقوله‏:‏ ‏(‏أسرى بى الليلة إلى بيت المقدس‏)‏ حرصًا منهم على التشنيع عليه، وإثارة اسم الكذب عليه عند العامة المستهواة بمثل هذا التشنيع فلم يسألوه فى اليقظة كان ذلك الإسراء أو فى النوم وأقبلوا على التقريع له، وتعظيم قوله، وهذا غير معدوم من تشنيعهم، ألا ترى تكذيبهم قبل وقعة بدر لرؤيا عاتكة بنت عبد المطلب، عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ قالت‏:‏ رأيت كأن صخرة وقعت من أبى قبيس فانفلقت فما تركت دارًا بمكة إلا دخلت فيها منها فلقة‏.‏

فلما رأوا قبح تأويلها عليهم قالوا‏:‏ يا بنى عبد المطلب، ما أهل بيت فى العرب أكذب منكم، أما كفاكم أن تدعوا النبوة فى رجالكم حتى جعلتم منكم نبية‏:‏ فشنعوا رؤياها، وأخبروا عنها بالنفى طمعًا فى إثارة العامة عليهم، فكذلك كان قولهم فى مسراه صلى الله عليه وسلم‏.‏

وفسر فى الحديث اللغاديد‏:‏ عروق الحلق‏.‏

وأهل اللغة يقولون‏:‏ اللغاديد هى كالزوائد من لحم يكون فى باطن الأذنين من داخل، واحدها لغدود وبعض العرب تسميها‏:‏ الألغاد، واحدها‏:‏ لغد‏.‏

ذكره ثابت فى خلق الإنسان‏.‏